رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الاضطراب المفتعل».. عندما يصبح المريض مخادعًا (تقرير)

مرض نفسي
مرض نفسي

هل تخيلت يومًا أن تقابل شخص يدعي أنه مريض؟، هل تصدقه إذا قال لك إنه يعاني من ألم أو نزيف مفاجئ أو حساسية خطيرة؟، تشفق عليه وتحاول مساعدته أم تشك في قصته وتبحث عن الحقيقة؟
 

إذا كنت تواجه هذه المواقف، فقد تكون أمام حالة من الاضطرابات العقلية النادرة تسمى "الاضطراب الافتعالي"، مرض يجعل المصاب يخدع الآخرين عن طريق المبالغة في الأعراض أو الإصابة بالمرض عمدًا أو إلحاق الأذى بالنفس. 

وفي بعض الحالات، قد يقوم المصاب بإيذاء شخص آخر، مثل طفله أو حيوانه الأليف، لجذب الانتباه والرحمة، ولكن لماذا يفعل المصاب هذا؟ وكيف يمكن التعرف على هذا المرض وعلاجه؟ وما هي الآثار السلبية التي قد تنجم عنه؟ هذا ما نجيب عنه في السطور التالية.

مرض خطير

تقول الدكتورة شيرين عبد الله، إخصائي الطب النفسي بمستشفى الدكتور عمر شاهين للصحة النفسية بالجيزة، إن الاضطراب الافتعالي يُعد مرضًا نفسيًا خطيرًا ويتميز بتظاهر المصاب بالمرض أو إلحاق الأذى بنفسه أو شخص آخر بشكل متعمد، دون وجود دافع خارجي واضح.

وتضيف: "يعاني المصاب من حاجة نفسية للحصول على الانتباه والرعاية والتعاطف من الآخرين، وقد يخدع الأطباء والمستشفيات والأهل والأصدقاء بأعراض غامضة أو مزيفة، كما يُعتبر تشخيص هذا المرض صعبًا للغاية، ولا توجد علاجات قياسية له".

وتوضح "شيرين" في حديثها لـ "الدستور"، أن الاضطراب الافتعالي يحتاج إلى رعاية طبية ونفسية فائقة، ويمكن أن يسبب للمصاب والآخرين ضررًا صحيًا أو نفسيًا أو اجتماعيًا أو ماليًا أو قانونيًا، لذا من الضروري التعرف المبكر على علامات وأعراض المرض، وطلب المساعدة من إخصائي صحة نفسية، والالتزام بخطة العلاج المُحدَدة من قِبَل الطبيب، كما يجب توفير دعم نفسي واجتماعي للمصاب، وتجنُّب التعرض للضغوط والصدمات التي قد تُثير هذه التظاهرة.
 

وقد يحدث هذا المرض في شكلين رئيسيين:
 

  • الاضطراب الافتعالي للذات: يدعي فيه الشخص كذبًا بأنه مصاب بمرض جسدي أو نفسي، أو يقوم فيه بإصابة نفسه أو إمراض نفسه بهدف خداع الآخرين، وقد يكون هذا المرض مصحوبًا بمعرفة واسعة بالمصطلحات الطبية والأمراض، وادعاء أعراض غامضة أو غير متناسقة، والإقامة الدائمة في المستشفى، والجدال مع الأطباء والموظفين، والرغبة في إجراء اختبارات متكررة أو عمليات محفوفة بالمخاطر.
     
  • الاضطراب الافتعالي الذي يتم فرضه على شخص آخر: يدعي فيه الشخص كذبًا بأن شخصًا آخر يعاني من مرض جسدي أو نفسي، أو يقوم فيه بإصابة شخص آخر أو إمراضه بهدف خداع الآخرين، وقد يكون هذا الشخص عادة فردًا من العائلة أو مقدمًا للرعاية للشخص المستهدف، وقد يكون هذا الأخير طفلًا أو شخصًا مسنًا أو شخصًا معاقًا أو حيوانًا أليفًا.


أسباب مجهولة

"لا تزال أسباب هذا المرض غير معروفة بشكل دقيق، لكن هناك بعض العوامل التي قد تزيد من احتمالية الإصابة به، منها العوامل النفسية، حيث يكون المصاب قد عانى في طفولته من إهمال أو إساءة أو تجارب صادمة، أو يكون قد تعلم سلوك التلاعب من شخص قريب منه، فضلًا عن انخفاض ثقته في نفسه أو شعوره بالحرمان والحاجة إلى التحكم"، وفقًا لحديث "شيرين".

وتستطرد إخصائي الطب النفسي: "هناك عوامل بيولوجية أيضًا تتسبب في الإصابة بالمرض، مثل التغيرات في الدماغ التي تؤثر على قدرة التحكم في الانفعالات والسلوك، أو الوراثة العائلية التي تزيد من خطورة الإصابة بهذا المرض، وقد يتأثر المريض أيضًا بعوامل ثقافية، مثل الظروف الحياتية التي تجعله يشعر بالضغط أو الإجهاد أو الحاجة إلى التغيير".

وفي ختام الحديث، تنوّه "شيرين" إلى أن غالبًا ما يُركّز العلاج على إدارة الحالة، أكثرَ من محاولة شفائها، ويشمل العلاج عمومًا أن يكون للمصاب طبيب رعاية أولية، حيث يساعد في الإشراف على الرعاية الطبية اللازمة وخطة العلاج، بالإضافة إلى العلاج النفسي، حيث يساعد العلاج بالحوار أو العلاج السلوكي في التحكّم في التوتر وتطوير مهارات التأقلُم، وفهم سبب هذه التظاهرة وإيجاد طرق بديلة لتلبية احتياجات المصاب.


حِيل خادعة

رجل في الثلاثين من عمره، متزوج ولديه ثلاثة أولاد، يعمل محاسبًا في شركة كبيرة، ويعيش حياة  مستقرة، لكنه  يخفي سرًا عن زوجته وأولاده وزملائه، وهو معاناته من الاضطراب الافتعالي منذ سنوات طويلة، حين كان يشعر بالوحدة والإهمال من قِبَل ذويه، فبدأ يتظاهر بالمرض ليجذب انتباههم ورحمتهم.

ويروي "محمد" قصته: "كنت أخترع أعراضًا مختلفة، مثل الصداع أو الغثيان أو الحمى، وأزور المستشفيات بشكل متكرر، كنت أستخدم المسكنات والحقن والجروح لإثبات مرضي، وأستمتع بالشعور بالرعاية والحنان من قِبل الأطباء والممرضات، وأحسد المرضى الآخرين على تعاطف الناس معهم".
 

محمد يشعر بالضجر والروتين في حياته، ولا يجد متعة أو تحديًا في عمله أو زواجه، كما يشعر دائمًا الحاجة إلى الانتباه والإعجاب من الآخرين، خاصة النساء، لذا يبتكر أعراضًا مزيفة، حتى كُشف أمره وتدهورت حياته، حين اكتشفت زوجته خداعه طوال السنوات الماضية، وهجرته برفقة أولادهما، ليُصاب بالإحباط والغضب من نفسه ومن الآخرين، وينغمس في الإدمان على المسكنات والكحول.

ويستطرد الشاب الثلاثيني في حديثه لـ "الدستور": "كنت أصاب بالعديد من المشاكل الصحية بسبب التسمم والجروح والجراحات غير الضرورية، فضلًا عن معاناتي من الاكتئاب والقلق والوسواس، بسبب فقد أولادي احترامهم لي، وسخرية زوجتي من ضعفي، واتهامي بالكسل والغش، الأمر الذي جعلني أفقد السيطرة على حياتي تمامًا، وأصبح عبدًا للمرض".
 

قرر محمد في يوم من الأيام أن يطلب المساعدة من إخصائي صحة نفسية، كونه شعر بأن حياته تنهار، وشخص له الطبيب مرضه بالاضطراب الافتعالي، وبدأ معه علاجًا نفسيًا طويلًا، وتعلم خلال رحلة العلاج كيفية التغلُّب على حاجته للانتباه والإعجاب، وكيفية تقبل نفسه وقدراته، وتطوير علاقات صحية مع زوجته وأولاده وزملائه.
 

يشعر الشاب الآن بأن حياته تغيرت للأفضل، استعاد زوجته وأولاده وزملاءه، وأصبح لديه اهتمامات جديدة في حياته، يستمر في المُتابعة مع طبيبه النفسي، ويحصل على دعم من عائلته ومجموعة دعم مُتخصصة، يشعر بالأمل والتفاؤل بمستقبله، ويريد أن يشارك تجربته مع الآخرين الذين يعانون من هذا المرض، ليشجعهم على طلب المساعدة والتغلُّب على هذه التظاهرة.
 

تشخيص صعب

أما عن طرق تشخيص الاضطراب الافتعالي، يؤكد استشاري الصحة النفسية، أسامة رامز، أن تشخيص هذا المرض لا يتم بسهولة تمامًا، لأن المصاب يكون عادة مقنعًا في تقديم الأعراض والحالات الصحية، ولكن هناك خطوات يتم اتباعها لتشخيص هذا المرض، ومنها إجراء مقابلة تفصيلية مع المصاب للتعرف على تاريخه المرضي والنفسي والشخصي.

ويتابع: "يجب أيضًا الحصول على السجلات الطبية الماضية من الأطباء والمستشفيات السابقة، وإجراء الاختبارات ومعايير التشخيص المطلوبة لاكتشاف الأمراض المحتملة أو استبعادها، حتى يتم التأكد من حقيقة إصابة الشخص بالمرض، وتقديمه نفسه على أنه مصاب بالكذب، أو تعمده إيذاء نفسه بشكل مستمر".


ومن واقع خبرته العملية، يشير استشاري الصحة النفسية، إلى استخدام بعض الأشخاص هذه الادعاءات المرضية في حل المشكلات القانونية التي تواجههم؛ بسبب اتهام المصاب بالتزوير أو التلاعب أو التورط في جرائم ضد الأشخاص (مثل إيذاء طفل)، أحيانًا يتعرض المصابون بالمرض إلى الوفاة، إثر خضوعهم لعلاجات غير ضرورية.


عوامل نفسية

ويضيف: "من وجهة نظري، لا يوجد سبب واحد يمكن أن يفسر لماذا يصاب الأشخاص بهذا المرض، ولكن هناك بعض العوامل التي قد تساهم في ذلك، مثل الإصابة بأحد الاضطرابات العقلية أو المشكلات النفسية الأخرى، مثل الاكتئاب أو القلق أو الوسواس أو الاضطرابات الشخصية، أو التعرض لحادث أليم أو صدمة نفسية في الطفولة أو المراهقة، مثل التعرض للعنف أو الإهمال أو الإساءة الجسدية أو الجنسية".

وينوّه "رامز" في حديثه لـ "الدستور"، إلى أن هناك عوامل أخرى تتسبب في الإصابة بالمرض، منها فقدان أحد الأشخاص المقربين من الشخص، مثل والديه أو شريكه أو صديقه، عدم الثقة بالنفس أو الشعور بالنقص أو الحاجة إلى الانتباه أو الإعجاب من الآخرين، عدم الشعور بالأمان أو التقبل أو الانتماء، والشعور بالوحدة أو العزلة، عدم التأقلم مع المشكلات أو التغيرات في حياته، والهروب من المسؤوليات أو التحديات.
 

يرى استشاري الصحة النفسية في ختام حديثه، أن هذا المرض يحتاج إلى تفهم وتعاطف من قِبَل المجتمع، وإلى تقديم المساعدة والدعم من قِبَل المتخصصين في مجال الصحة النفسية، كونه ليس اختيارًا للشخص، وإنما نتيجة لعامل مؤثر على نفسيته، كما يظن أن المرض يمكن علاجه بالطرق المناسبة، مثل العلاج المعرفي السلوكي أو العلاج بالمحادثة أو الأدوية المضادة للاكتئاب.