رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كلمة السر فى موجات السرقة الشمالية 3

قام البحر المتوسط بدور كبير فى حماية مصر شمالًا من الغزو العسكرى. لكن هذا الدور لم يستمر طوال تاريخ مصر، وعرفت مصر موجة من أعنف موجات الغزو فى تاريخها برًا وبحرًا. وارتبط ما تعرضت له مصر من الحدود الشمالية بحدودها الغربية، حيث قامت «شعوب البحر» بعمليات إنزال برى على شواطئ ليبيا لتطويق مصر تزامنًا مع الغزو البحرى الأول والأكبر فى تاريخها. حدث ذلك فى عصر الملك رمسيس الثالث فى القرن الثانى عشر قبل الميلاد، بعد أن سبقته محاولات وإرهاصات فى عصر مرنبتاح حوالى ١٢٢٣ ق. م.

شعوب البحر عبارة عن أخلاط من قبائل متعددة الهويات، بعضها من بعض جزر البحر المتوسط وتحالفت معها قبائل من غرب آسيا من عبرانيين وسوريين، لكننى فى هذا الموضع، كما ذكرت فى الجزء الأول، لا أستعرض ما تعرضت له مصر من غزوات عسكرية، وإنما وجبت الإشارة العاجلة لهذا الحدث لكى نعرف أن هذه الحدود الشمالية لم تكن هى الاختيار الأول لمن قرروا غزو مصر.

منذ هذا التاريخ ستكون هناك محاولات جديدة للتسلل من الحدود الشمالية والغربية ولا تتخذ شكل الغزو العسكرى. لكن قبل ذلك بقرون ظهرت عناصر فردية من قبائل تسكن على حدود مصر الغربية، وذلك تقريبًا منذ الدولة القديمة. دخلت بعض تلك العناصر بحثًا عن فرص عمل وحياة. فعمل بعضها بالرعى وتمت الاستعانة ببعضها كمرتزقة فى الجيش المصرى. لكن ظلت أعدادها محدودة لا تتعدى نسبة أقل من واحد فى المائة من تكوين هذا الجيش وتمصروا عبر القرون.

بعد انهيار الدولة الحديثة أواخر القرن الحادى عشر قبل الميلاد وحين ضعفت سلطة الدولة المركزية بدأ التسلل من الحدود الشمالية والغربية يتخذ شكلًا مكثفًا. اتخذ هذا التسلل شكلين لا ثالث لهما، الأول العمل كمرتزقة والثانى هو التجارة، ارتكب حكام مصر خطيئة كبرى فى عصر ضعفها حين توسعوا أولًا فى استخدام المرتزقة فى الجيش المصرى حتى نصل إلى القرن السابع قبل الميلاد حين أصبح هناك أمر واقع كان له الأثر الأكبر فى فقد مصر استقلالها الوطنى قرونًا طويلة آتية، وثانيًا حين تركوا تجارة مصر فى أيدى هؤلاء الوافدين من اليونانيين- الأيونيين والكاريين- والسوريين واليهود.

ممن قام بذلك من الأسر الملكية ملوك الأسرة ٢٦م التى سبقت الغزو الفارسى لمصر «٦٥٦- ٥٢٥ ق. م»، حيث توسعوا بشكل كبير فى استخدام مرتزقة يونانيين وبعدها تدفق التجار- يونانيون وسوريون ويهود- على مصر وفى فترة قصيرة تكدست الثروات فى أيدى هؤلاء التجار على حساب التجار المصريين.

بدأ التجار الوافدون يتحكمون فى الاقتصاد المصرى كما بدأ المرتزقة يتحكمون فى السياسة المصرية حتى تكونت حاميات على الحدود المصرية من غير المصريين، بل إن مشهد دخول الفرس لمصر، كما تم توثيقه، كان بعد أن قام أحد القادة اليونانيين المرتزقة بالفرار من الجيش المصرى بقيادة أحد آخر ملوك هذه الأسرة ويسمى أحمس الثانى، فر هذا القائد إلى الملك الفارسى قمبيز وأخذ يغريه بمهاجمة مصر ويرسم له الخطط ويدله على مواطن الضعف فى استحكامات البلاد، وتولى هذا القائد قيادة إحدى فرق الجيش الغازى.

تزامن مع ذلك تدفق يونانيين كثر على السواحل الليبية. استنجدت القبائل الليبية بالملك المصرى. خاف الملك المصرى من إرسال المرتزقة لعلمه أنهم لن يحاربوا بنى جلدتهم، فأرسل جزءًا من الجيش مصريًا خالصًا، لكنه وقع فى كمين بخيانة المرتزقة.

ثار المصريون بعد ذلك ضد حكومتهم رفضًا لنفوذ المرتزقة والتجار. حاول الملك أحمس الثانى أن يمتص غضب المصريين ببعض الإجراءات، لكنه عجز عن التخلص من المرتزقة أو الحد من نفوذ التجار الذين أصبحوا يتحكمون تمامًا فى تجارة القمح وتجارة الورق المصريتين.

بعد غزو الفرس قام المصريون بثورات كبرى ضدهم حتى أخرجوهم من مصر، وحاول ملوك مصر بعد ذلك الحد من نفوذ التجار الأجانب بفرض ضرائب كثيرة عليهم، فرد هؤلاء بالتواطؤ مع الفرس لغزو مصر من جديد بجيش قوامه ٢٠٠ ألف جندى، لكن فيضان النيل منع وصول الجيش للدلتا وعاد مرة أخرى من حيث أتى. 

لقد شكلت مجموعات المرتزقة مع مجموعات التجار الأجانب رأس حربة غزو الإسكندر لمصر، الذى بدأت به رحلة طويلة من الاحتلال الأجنبى المتوالى لمصر.

فشل ملوك مصر فى الأسر الملكية الأخيرة التى سبقت هذا الغزو فى إنقاذ مصر أو إنقاذ شعبهم أو حتى إنقاذ أنفسهم من نتائج الخطيئة الكبرى التى اقترفها بعض أسلافهم فى نهايات الدولة الحديثة.

ظاهرة المماليك التى عرفها العالم فى العصور الوسطى عرفتها مصر فى نهايات الدولة الحديثة- نهاية القرن الحادى عشر ق. م وما تلاه- حين تم تجميع أسرى الحرب من شعوب البحر فى معسكرات حربية ثم تدريبهم واستخدامهم كمرتزقة. بعد جيلين أصبحوا قادة عسكريين تم إقطاعهم أراضى وثروات كبيرة فعاثوا فى مصر فسادًا ونهبًا وتخريبًا، وسجل التاريخ مشاهد خيانة عديدة لهذا الجيش المصرى الذى لم يكن له من مصريته غير الاسم. 

كما أصبحت تجارة مصر فى أيدى غير مصريين، واستمر ذلك عبر القرون بعد أن قامت القوة العسكرية الغازية- جيش الإسكندر وما تلاه من جيوش يونانية ورومانية- بحماية هذه التجارة وحصرها فى أيدى بنى جلدتهم، بالإضافة لشركائهم اليهود والسوريين الذين شاركوا بفرق من مرتزقتهم فى هذه الجيوش فأصبح لتجارهم نصيب يناطح نصيب التجار اليونانيين، وتمت تنحية المصريين جانبًا.

على عكس ما يعتقده البعض أن ظاهرة التسلل إلى الأراضى المصرية والعيش فى مصر فترات طويلة جعل من هؤلاء مصريين، فوثائق التاريخ تقول عكس ذلك، فقط ظلت تلك المجموعات منفصلة عن المصريين وساعد على ذلك سياسة اليونانيين وبعدهم الرومان من تصنيف جميع من يسكن بمصر إلى فئات عرقية مختلفة ولكل منها حقوق، وعليها واجبات وجعلت المصريين فى ذيل القائمة، ومنعتهم حتى من السكن فى بعض المدن مثل الإسكندرية، كما منحت حق المواطنة لفئات كثيرة شملت بالقطع اليونانيين والرومان، ثم ألحقت بهم بعض الفئات التى كانت تتحكم فى التجارة والاقتصاد، لذلك ظلت تلك الفئات تنظر بكثير من التعالى على المصريين أصحاب البلاد، والذين أصبحوا مزارعين أجراء بالكاد يحصلون على ما يجعلهم على قيد الحياة.

نجحت محاولات سرقة مصر من الشمال. هذه حقيقة. واتخذ هذا النجاح مظاهر وثقها التاريخ، على رأسها التحكم فى تجارة واقتصاد مصر، ثم كانت دائمًا الخطوة الحاسمة بمساعدة الجيوش الغازية لدخول مصر مساعدات لوجستية أو الانضمام المباشر لتلك الجيوش.