رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وزير وشاعر وزعيم جماعة

ثلاثة أصدقاء، أحدهم من «طوس»- منطقة قريبة من خراسان- والثانى من «نيسابور»- من أعمال خراسان- والثالث من «الرى» ببلاد فارس. أما الأول فواحد من أشهر وأكبر وزراء الدولة السلجوقية، وهو الوزير نظام الملك، والثانى واحد من أكبر الشعراء الذين عرفهم العرب وفارس، هو الشاعر عمر الخيام، والثالث واحد من أقدم مؤسسى الجماعات المسلحة فى التاريخ، وهو الشيخ الحسن الصباح.

وزير وشاعر وزعيم جماعة، كان لكل منهم نهجه وأثره فى التاريخ، وهو أثر يتواصل فى الواقع حتى اللحظة، ومنبعه امتلاك كل منهم رؤية أو فلسفة أو قدرة ميزته عن معاصريه، وهيأته للتأثير فى غير معاصريه. إنها رؤية وفلسفة وقدرة عابرة للعصور، تناقلتها الأجيال جيلًا بعد جيل، بغض النظر عن نوع الأثر الذى تركته: إيجابيًا أو سلبيًا.

جمعت ما بين الثلاثة صداقة عميقة فى الطفولة، فرغم انتمائهم إلى ثلاثة أماكن مختلفة فإن فصول الدراسة التى يرعاها الشيخ «موفق النيسابورى» جمعت بينهم فى «خراسان». وقد اشتهرت مدرسة الشيخ بصناعة المؤثرين والمشاهير فى ذلك العصر. كان «نظام الملك» واسمه «حسن الطوسى» أول من وفد إلى مدرسة الشيخ الثمانينى الجليل، فانتقل من «طوس» إلى «نيسابور» مصحوبًا بوصايا أبيه الذى أراد له أن يحظى بموقع فريد داخل دولاب الحكم فى الدولة السلجوقية ليعوض ما فقدته الأسرة من مجد ومال زائل بعد أن باتت الوظيفة التى احترفها الأب غير ذات قيمة عقب دخول المسلمين إلى بلاد الفرس. فقد كان الأب يعمل دهقانًا، وهى وظيفة كانت لها قيمتها ومقامها فى البلاط الساسانى، حيث كان يعمل كجسر صلة بين الأهالى من ناحية والحكام والمتنفذين داخل المجتمع الفارسى من ناحية أخرى، وقد فقد المركز بريقه وما يدره على صاحبه من مال بعد سقوط الحكم الفارسى، فوضع الأب أمله فى ولده وحلم له بمركز كبير داخل الحكومة السلجوقية، بل قل إنه صمم أن يهيئه لوظيفة الوزير الكبير نافذ الرأى والقرار.

مكث «نظام الملك» فى مدرسة «موفق النيسابورى» أربع سنوات متصلة ينهل منه العلم والمعرفة، وأحب شيخه واحترمه كثيرًا. وبينما كان «نظام الملك» غارقًا فى البحث والدراسة فى أحد الأيام، إذ به يلاحظ دخول اثنين من الأطفال، تظهر على وجهيهما علامات الذكاء والنجابة، لفتا نظر نظام الملك، الأول هو عمر الخيام، والثانى هو الحسن الصباح. على وجه عمر الخيام ارتسمت علامات الرقة ونطقت عيناه بالحكمة، وعلى وجه الحسن الصباح بدت علامات الغضب، ونطقت عيناه بالمراوغة. ففى مدينة «الرى» انتشرت أخبار والد الحسن الصباح وآراؤه المهاجمة لفكر أهل السنة، والمدافعة عن التشيع، وهى ذات الأفكار التى كان يتبناها «الحسن»، مما سبّب له ولأبيه العديد من المشاكل، واتفق الاثنان على إلحاق «الحسن» بإحدى أكبر المدارس التى يقودها أشهر علماء أهل السنة فى ذلك الوقت، وهو الشيخ «موفق النيسابورى» كدليل على إيمانهما المذهبى السنى.

جمعت ما بين «نظام الملك» و«الخيام» و«الصباح» صداقة عميقة، فكانوا يقضون النهار فى المدرسة معًا، ويطعمون غداءهم معًا، ثم يجتمعون على استذكار ما درسوه تحت قيادة «نظام الملك». والواضح أن الأخير كان أكثرهم نباهة وذكاءً، وكان كل من «الخيام والصباح» يتوقعان لصديقهما مستقبلًا باهرًا، وأنه سيبرزهما نجاحًا. وكانت نظرة الاثنين فى محلها. وتتضارب الروايات حول كلام دار بين الثلاثة وهل كان مصدره «الخيام» أو «الصباح». ينسب المؤرخون إلى «الصباح» أنه قال لصديقيه ذات مرة: «كلنا تلاميذ للإمام موفق النيسابورى، وسننال الرفعة والحظوة، فمن يكون منا مظهرًا لهذا الفيض، ولا بد أن يكون أحد منا، فماذا سيعمل لأخويه الباقيين؟»، فقال نظام الملك والخيام له: «ليكن كيفما تريد» فقال: «يلزم أن نتعاهد على أن كل من يصيب ذلك منا يشارك أخويه الباقيين ولا يكتفى بمنفعة نفسه»، فقال الاثنان: «نعم فليكن ذلك».

تعاهد الثلاثة على ذلك، أو بالأدق تعهد «نظام الملك» لكل من «الخيام» والصباح» بذلك، وتواصلت الدراسة، وبان على كل واحد منهم أمارات النباهة والتميز، فظهر «نظام الملك» نابهًا فى لعبة السياسة، وبات على مقربة من بلاط السلطة، كما كان يحلم له أبوه، ونطقت أحوال «عمر الخيام» بعمق النظرة إلى الدنيا والدين، وبدأ يترجم أحاسيسه وأفكاره فى نظم شعرى ناطق بالحكمة والفلسفة، أما ثالثهما وهو الحسن الصباح، فقد بدأ يسلك مسلكًا مختلفًا، إذ بدأ فى التفكير فى تحويل آرائه وأفكاره المناهضة لأهل السنة والمؤمنة بالمذهب الإسماعيلى إلى واقع يمشى على قدمين، ويحول المبارزات الفكرية لمخالفيه فى الرأى إلى مبارزات بالسلاح، أراد أن يترجم فكره إلى جماعة يكون هو زعيمها، ويكون له جموع حاشدة من الأتباع تؤمن بما يؤمن به، وأن يخرج من بين هذه الحشود من يستطيع حمل السلاح وتصفية خصومه السياسيين والمذهبيين. زار «الصباح» القاهرة المعزية مركز الإيمان بالمذهب الإسماعيلى فى ذلك الوقت، وقضى فيها عدة شهور أواخر عهد الدولة الفاطمية- أيام أمير الجيوش الأفضل الجمالى- وخالفه الرأى فى نقل الحكم من بعد المستنصر إلى ولده «المستعلى»، وجهر برأيه فى أن الشقيق الأكبر للمستعلى وهو نزار، الأحق بالأمر من بعده، فأمر «الجمالى» بالقبض عليه وسجنه، لكنه أفلح فى الهرب من محبسه بالإسكندرية.

قد يتشابه مجموعة من الأشخاص فى ظروف الميلاد أو النشأة أو العصر الذى يعيشون فيه، ويدرسون المحتوى نفسه على يد أستاذ واحد، وقد يتواعدون فى طفولتهم على العمل على قلب رجل واحد، لكن حين تأخذهم الحياة فى شبابهم ورجولتهم، وتختلف بهم دروبها، فإن وعود الطفولة تُنسى، وتأخذ العلاقة شكلًا «نفعيًا» لدى الطرف الأكثر احتياجًا، وشكلًا من أشكال «إشباع غرور الذات» من جانب الطرف الأقوى، أما الأخطر فيتمثل فى تحول الصداقة إلى خصومة يتربص فيها كل طرف بالآخر، فيحل الحقد محل الحب، وتأخذ الخيانة مكان الوفاء. وسبحان من يغير ولا يتغير.