رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رمضان وعدوية وبينهما جعفر العمدة

أحب صوت أحمد عدوية وأطرب له بلا حدود، لكننى ظللت لسنوات أحرم نفسى من متعة التعامل مع أغنياته بمزاج صافى.. كنت قد قرأت كل ما كتبه المثقفون عن تجربته وتأثرت بها واعتبرته مثل كثيرين سببًا مهمًا من أسباب نكسة الانفتاح وصعود طبقة تجار الخردة وتماهى فى ذهنى لسنوات مع كثير من الموبقات التى وصمنا عصر السادات بها.. لكننى وبعد سنوات من الفهم والدراسة والبحث وجدت لدى عدوية فيما قدمه ما يستحق أن نطرب له ونتوقف أمامه، وشعرت بندم كبير إزاء تلك الصورة الذهنية التى كونتها فقط لمجرد أن أمشى فى ركاب قطيع الأفندية أو مَن يحسبون أنفسهم كذلك.. وبهذا الفهم تعاملت مع تلك الازدواجية الرهيبة التى صنعت من عادل إمام وقبله فريد شوقى نجمين لما يزيد على خمسين سنة من عمر السينما المصرية جعلت من أحدهما ملكًا للترسو ومن الآخر زعيمًا، ولا تزال.. رغم أن أى قراءة منصفة لأعمالهما ستجد أنهما لم يقدما شيئًا مختلفًا عما يقدمه محمد رمضان من ميلودراما شعبية جعلت البعض يستغرب من ذلك الالتفاف الجماهيرى حوله ويصمه بكل موبقات فساد الذوق العام.. ولا تستغرب إن وجدت من بين هؤلاء الأفندية مَن يتشدق بمفردات الحرية على إطلاقها.. لكنه فى الوقت نفسه لا يبرر لذلك الجمهور حريته فى الاستمتاع بجعفر العمدة وحكاياته.. منتهى التناقض لكنها نظرية زعل الأفندية الذين نخشاهم حتى لا يتم إخراجنا من القطيع والانتماء إليه. 

 

لم أشاهد الحلقات الأولى من جعفر ربما لأننى لا أنتظر من صناع تجربة رمضان شيئًا مدهشًا.. لكننى ذهبت إليه بعد الأسبوع الأول مضطرًا.. وتابعته مع عموم الناس الذين توحدوا معه لكننى لم أفعل.. فقط طلبت من نفسى فرصة الانتظار حتى نهاية المسلسل.. وقد كان ما توقعت حصد المواقع المتقدمة فى كل الاستطلاعات الشعبية.. والحضور الجماهيرى لا يمكن إنكاره.. حدث ذلك مع رمضان فى أكثر من عمل من بينها «الأسطورة».. وأعتقد أن مَن صنعوا خلطة جعفر كانوا من بين صناع خلطة «الأسطورة».. وأظنها كانت البداية فى الألفية الجديدة لذلك النوع من الدراما الشعبية التى تستفيد من كل عناصر الإبهار التى تطورت عبر سنوات لتقدم نفس ما كان يقدمه يوسف وهبى فى بدايات المسرح المصرى. 

 

هذا الشكل من الميلودراما الذى يعتمد كثيرًا على المؤثرات الصوتية والموسيقى وأداء الممثلين وحبكة درامية غير عميقة تصل بنا لمجموعة من الحكم والمواعظ مع إضافة القليل من بهارات السينما الهندية والتركية- يجد طريقه بسهولة إلى قلب المشاهد المصرى بعيدًا عن أى فذلكة.. أو محاولة البحث عن كلام كبير لتفسير هذه الحالة. 

 

الشارع المصرى ليس غريبًا عن رامبو... وجاكى شان، فماذا لو ألبسنا أحدهما عباءة العمدة القادم من حى شعبى ويمتلك المال والسطوة والقدرة على هزيمة الأعداء، أى أعداء، ويحوز المال والنساء.. حتمًا سنفرح به ونحتفى ببطولاته لأننا بداخلنا حلم بتلك الصورة.. معظم أبطال عادل إمام الذين احتفينا بهم كانوا كذلك.. لم يكونوا بياعى سبح ولا من دراويش الحسين.. كانوا بشرًا معطوبين لكنهم يحققون لذواتنا المتعبة ما لا نستطيع تحقيقه فى الواقع.. وإلا بماذا تفسرون سر متعتنا فى الفرجة على «الواد محروس بتاع الوزير» مثلًا؟. 

.. الميلودراما الشعبية وجدت طريقها إلينا لا أجادل فى ذلك وربما تصبح ولسنوات طبقًا مطلوبًا على مائدة الفرجة فى مصر والعالم العربى.. سنجدها جنبًا إلى جنب مع عمل عظيم ومتعوب فيه ويحمل رسالة مدهشة مثل «تحت الوصاية».. نفس الجمهور سيشاهد النوعين من الدراما مثلما نسمع أغنيات الحجار ومنير فى نفس ذات اللحظة التى نقيم فيها أفراحنا على موسيقى المهرجانات وشاكوش وحمو بيكا.. لا تناقض فى ذلك.. عاطفيون نحن نعم.. وطيبون.. ومبدعون.. وفى نفس الوقت تزدحم صفحات الحوادث يوميًا بأفظع أنواع الجريمة.. علينا أن نصدق سواء قبل الأفندية أو لا أننا لسنا ذوقًا واحدًا.. والواحد منا أيضًا ليس صورة واحدة.. لكننا نحمل آلاف الأوجه وسنظل لسنوات نحاول اكتشاف أنفسنا والتعرف على ذواتنا. 

 

وصل جعفر العمدة لجمهوره.. ووصلت حكمته وموعظته ورسالته، سمها ما شئت.. بالطريقة التى أراد صناعه لها أن تصل بها.. بالطريقة التى يجيدونها ويحترفونها.. وهى فى النهاية رسالة لا نختلف عليها «عوام وأفندية».