رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أنا وسيمور هيرش

كنا نلتقي كل شتاء في عمان، حدثا صحفيا سنويا يجمع ثلة من الصحفيين العرب والأجانب، تحديدا في 2018 كان لقائي مع أيقونة الصحافة الاستقصائية الأمريكي سيمور هيرش، وهو الرجل الذي لا يزال وفيًا لأسلوبه الخاص في الصحافة الاستقصائية المتميز بدقة معلوماتية من مصادره في أروقة أجهزة المخابرات والأمن القومي الأمريكية وكشف سياسة بلاده في كوارث تاريخية خارج الحدود لكل من يقف في وجه مخططات المصالح الأمريكية.

أكثر من 60 دقيقة من النقاش قضيتها وزملائي معه حول مستقبل الصحافة وخاصة الاستقصائية في العالم العربي وظروفها في ظل تدهور المطبوع وكذلك تحولات إقليمية وعالمية تتجهز على قدم وساق.

الأوضاع تتغير، لكن حديث هيرش من حينها- وأنا ألتقط معه صورة تذكارية وينحني ليكون مساويا لنفس طولي ممازحا "أنت قصير يا مصري لكن تنسى هذا اللقاء ولا هذه الصورة- لم أنس من حينها تلك الكلمات التي يمكن تلخيصها: "لا يمكن للصحفي أن يتراجع عن الكتابة– رغم أن عليه الحذر– فلا بد من نشر الحقائق التي جمعها أملًا في حدوث تغيير"، "انشر التحقيق الاستقصائي في أي مكان، ذلك أن أهمية التحقيق لا تكمن في ثقل الوسيلة الإعلامية، بل مضمونه ونطاق تأثيره"، "ابحث عن نوافذ لنشر تحقيقك، بما في ذلك مواقع التواصل الاجتماعي والتطبيقات الحديثة".

تذكرت نصيحته الأخيرة الخاصة بالبحث عن أي نافذة لنشر القصة حتى لو كانت منصات التواصل الاجتماعي، وأنا أتابع الزلزال الذي يهز أرجاء الولايات المتحدة الأمريكية بعد مقال سيمور هيرش الذي حمل عنوان "تجارة مع العدو" والذي اعتمد فيه على مصادر كبيرة في وكالة المخابرات المركزية، حيث يتهم الرئيس الأوكراني زيلنسكي ومساعدوه باختلاس ما لا يقل عن 400 مليون دولار من أموال المساعدات الأمريكية المخصصة لشراء وقود الديزل.

ليس هذا فقط، فقد كشف هيرش إنشاء شركات وهمية في أوكرانيا بهدف إبرام عقود مع تجار أسلحة حول العالم، لافتا إلى أن العديد من الوزارات الحكومية في كييف كانت "تتنافس" حرفيا لإنشاء شركات واجهة لعقود تصدير الأسلحة والذخيرة مع تجار الأسلحة المستقلين في جميع أنحاء العالم، حيث يوجد العديد من هذه الشركات في بولندا والتشيك وإسرائيل.

وفق هيرش، كان الضغط الأمريكي وراء حملة مكافحة الفساد في أوكرانيا قبل أربعة أشهر، حيث قدمت المخابرات الأمريكية قائمة من 35 مسئولا أوكرانيا فاسدا وطلبت إقالتهم، لكن زيلينسكي اكتفى بإقالة 10 فقط.

بالتأكيد لن يمر مقال هيرش مرور الكرام، فهو ذاته الذي كشف عن تورط المخابرات الأمريكية بتفجير غاز نورد ستريم عبر عملية صنفت بأنها Black Operation، قال إنه قد أمر بها الرئيس بايدن، والهجوم نفذته وكالة المخابرات المركزية بالتعاون مع النرويج، وتمت تحت غطاء تمرين حلف شمال الأطلسي، الذي تم الإعلان عنه على نطاق واسع في منتصف صيف 2022، والمعروف باسم عمليات البلطيق 22  قبالة ساحل ألمانيا.

تعرض هيرش بعدها لهجوم كبير من الإدارة الأمريكية، حيث تم اتهامه بأنه عنصر في الدعاية الروسية.

الغريب في مقال سيمور هيرش، أنه لم ينشر فى صحيفة أو وسيلة من وسائل الإعلام الكبري، بل  نشره عبر مدونته فى منصة "substack" الخاصة بالنشرات البريدية واستضافة المحتوى بشكليه المجاني والمدفوع للمتابعين، هل تتخيلون أن المقال الذي هز أمريكا لم يكن سوى قصة منشورة فى واحد من تطبيقات مواقع التواصل الاجتماعي، إنها رسالة لمن يعتبر.

المفارقة فيما يجري، أن نفس المنصة التي ينشر بها هيرش "substack"، هي نفسها التى استخدمها في نشرة "رادار نيوزليتر" البريدية، والتي تعد أول نشرة بريدية للتحقق من المحتوى ومواجهة الخلل المعلوماتي على منصات التواصل الاجتماعي، لمساعدة الصحفيين والمدونين وصناع المحتوى ورواد السوشيال فى البعد عن التضليل والبحث عن الحقائق، لأنه مع اعتياد الكذب يفقد الناس القدرة على التفريق بين ما هو حقيقي وما هو كذب.

لم يفتني أن أمر سريعًا على كتاب مذكرات سيمور هيرش "(مذكرات صحفي استقصائي) وهو الذي يبلغ من العمر الآن نحو 85 عاما الذي يشير فيه إلى خلاصة تحقيقاته التي كشفت "مذبحة قرية ماي لاي ضد المدنيين، والتي قامت بها القوات الأمريكية خلال حرب فيتنام، ونال عن التحقيق جائزة بولترز في 1969 ".

كما كشف البرنامج النووي الإسرائيلي وتكتم الأمريكان عليه، في كتابه:"خيار شمشون، الترسانة النووية الإسرائيلية والسياسة الخارجية الأمريكية "في 1991، إضافة لفضائح سجن أبوغريب فى العراق، كما حقق في عدم منطقية الرواية الأمريكية عن كشف مكان اختباء بن لادن وظروف مقتله بعدما زعمت أمريكا بأنها دفنت جثمانه فى قاع البحر، موضحا أنه كان معتقلًا لدى المخابرات الباكستانية قبل إعلان مقتله.

وربما كان هيرش هو الصحفي الوحيد الذي كشف تورط جبهة النصرة في تنفيذ هجوم بغاز السارين على الغوطة بمساعدة تركيا بغية توفير مبرر جاهز للولايات المتحدة لمهاجمة الأسد عسكريًا، باعتباره استخدام أسلحة محظورة ضد الشعب السوري.

فى آخر مقابلة لهيرش مع الإعلامية جيزيل خوري على فضائية سكاى نيوزعربية قال بالحرف الواحد" أمريكا لم تعد دولة عظمى".