رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أبوالحسن الندوى «3-2»

مر بنا فى المقال السابق استعراض ما حظى به كتاب «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟» للندوى من شهرة، وكيف صدرت عشرات الطبعات من هذا الكتاب منذ صدور الطبعة الأولى له فى نهاية الأربعينيات من القرن الماضى.

وفى هذا المقال نحاول تفسير السر وراء شهرة هذا الكتاب من خلال دراسة «السياق والنص»، ونعتقد أن السياق حول الكتاب لا يقل أهمية، إن لم يكن يزيد، عن النص ذاته.

والجدير بالملاحظة أن هذا الكتاب هو المؤلف الأول لأبى الحسن الندوى؛ إذ انتهى من تأليفه وهو فى الثلاثين من عمره. ولعل هذا يفسر روح الحماسة الإسلامية التى تزخر بها صفحات الكتاب. الأمر الآخر هو النشأة والسياق الاجتماعى لأبوالحسن الندوى نفسه؛ إذ ينتمى الندوى إلى الأقلية المسلمة الهندية ذات الأصول العربية، بل والأكثر من ذلك أنه من السادة الأشراف من حيث الانتماء لآل البيت النبوى. هكذا نستطيع أن نتبين الوضع الاجتماعى والدينى للندوى، فهو ينتمى إلى الأقلية الإسلامية، قبل انفصال باكستان عن الهند، هذه الأقلية الإسلامية التى تعيش فى واقع الأمر فى وسط أغلبية من الهندوس والسيخ. والأمر المهم والخطير أيضًا هو نظرة هذه الأقلية الإسلامية إلى نفسها وإلى الآخر؛ إذ نظرت الأقلية الإسلامية فى الهند إلى نفسها على أنها الفئة المؤمنة، فى ظل وسط اجتماعى «وثنى كافر» هو الوسط الهندوسى وأيضًا السيخى. وهنا مشكلة فى التجربة الإسلامية الهندية، ربما لم تعرفها التجربة الإسلامية فى مصر والعالم العربى. فعادةً ينظر المسلمون فى عالمنا العربى- وعبر التجربة التاريخية- إلى الآخر فى وسطهم الاجتماعى، قبل انتشار مفهوم الوطن والمواطنة، على أنه «أهل ذمة» «أهل كتاب» سواء كانوا مسيحيين أو يهودًا. لكن المشكلة فى الهند كانت أكثر حدة وتعقيدًا، فالآخر هنا ليس من أهل الكتاب، ولا ينطبق عليه مفهوم أهل الذمة، وهو أقرب إلى الوثنية- من وجهة نظرهم- وأبعد ما يكون عن الديانات السماوية، وبالتالى كانت النظرة هى فقه التعامل مع «دار الكفر».

وعلى الجانب الآخر كانت نظرة التيار القومى الهندى المتطرف إلى الأقلية الهندية المسلمة، أن الثقافة الإسلامية هى ثقافة وافدة على المجتمع الهندى الهندوسى، وهى ثقافة غازية أتى بها الفاتحون المسلمون، سواء العرب أو المغول، وبالتالى يرفض التيار القومى الهندى هذه الثقافة، وينظر إلى الأقلية المسلمة على أنها أقلية كافرة بالتراث الثقافى والدينى الهندى. من هنا نتفهم قيام أبوالحسن الندوى نفسه بالتبشير بالإسلام بين الهندوس، ونتفهم الصراعات التى لعب الاستعمار البريطانى دورًا فى تأجيجها بين الهندوس والمسلمين فى الهند، وهو ما أدى بعد ذلك إلى ظهور باكستان «الأرض الطاهرة» وخروجها عن الهند، مع بقاء أقلية مسلمة فى الهند حتى الآن، كان منها أبوالحسن الندوى.

يمكننا أيضًا تلمس الطبيعة النفسية للندوى الذى ينتمى إلى الأقلية المسلمة، وإلى الأقلية العربية داخل الأقلية المسلمة، وإلى الأقلية الشريفة داخل الأقلية العربية المسلمة. كما نفهم أيضًا انتماء أبى الحسن الندوى إلى المذهب الحنبلى، وإعجابه الشديد بأفكار ابن حنبل وابن تيمية، وهو المذهب الذى يتناسب مع وضعية الأقلية المسلمة داخل الوسط الهندى الهندوسى، ومحاولة التشدد للحفاظ على الهوية، والاستعلاء بالإسلام، وهو ما سنتحدث عنه فى المقال المقبل، وهو ما يميز التجربة الإسلامية الهندية، لكن المشكلة أن هذه التجربة الصعبة والمختلفة، ستترك آثارها على التجربة الإسلامية فى عالمنا العربى، عبر كتابات أبوالحسن الندوى وأبوالأعلى المودودى.