رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أيوه.. إحنا كتير

يحلو لمن لا يعرف مصر أن يستسهل ويعلن فى فجاجة عندما يجد مشهدًا لا يعجبه فى مسلسل ما أن يقول لك.. مصر مش كده.. ظنًا منه أن كل مصر مثل ذلك المشهد.. هذا الشخص نفسه يخلط فى الوقت نفسه بين أن هذه الدراما مجرد فن وخيال.. وبين أنها حياة حقيقية... بين دور الفن الأساسى وبين التسجيل والرصد والتوثيق.. ورغم هذه البديهيات نجد أنفسنا متورطين فى الدفاع عن كون هذه المشاهد موجودة بالفعل فى حياتنا العادية.. يا سيدى خدها منى ببساطة.. لو كنت قرأت سطرًا واحدًا لجمال حمدان.. من خمسين سنة لأدركت أن أحد أسرار هذه البلاد العظيمة أنها ليست مصرًا واحدة.. وأنها متنوعة.. وأنها غير أى بلد آخر فى تعددها واختلافها.. فى مصر أقصى اليمين وأقصى اليسار.. فى مصر النهار والليل.. فى مصر الأبيض والأسود والداكن والرمادى أيضًا.. هى كل ألوان الطيف.. حجر وطين وزمرد.. دهب وياقوت ورمل.. هى ليست ذلك الزجاج الهش ذا اللون الواحد.. مصر خلطة متفردة.. واحدة متعددة.. كبيرة.. وكبيرة جدًا على العيون الصغيرة والعقول الضيقة التى لا تدرك اتساعها. 

بهذا الفهم يمكنك أن تستوعب كيف يستوعب الفلاح المصرى أم كلثوم وحفنى أحمد حسن وأحمد عدوية فى وقت واحد... كيف يضحك حتى تدمع عيناه وهو يتابع سعيد صالح وعادل إمام وأحمد زكى وهم يمارسون مشاغباتهم مع سهير البابلى فى مدرسة المشاغبين وفى نفس اللحظة يتوحد بخشوع مع صوت الطبلاوى وحكايات مصطفى محمود وخواطر الشعراوى ويبحث فى شغف عن سيرة عنترة بن شداد وأبوزيد الهلالى.. الشخص نفسه.. المصرى نفسه ليس شخصًا واحدًا.. هو مثل هذه البلاد.. غير.. هو غير... وهو كثير أيضًا.

 

دراما مسلسلات هذا العام هى كذلك.. كثيرة.. وكبيرة.. ومتعددة.. ولأننا شعب لا يمكن التعامل معه بمنطق أنه ذوق واحد من الطبيعى جدًا أن ينقسم فى حالة الفرجة إلى أهلى وزمالك وإسماعيلى واتحاد ومصرى بورسعيدى... وبمجرد أن ينتهى من فرجته يعود ليصبح واحدًا فى الفريق الذى يهتف لمحمد صلاح.. ويشجع المنتخب.. من لا يعجبه سره الباتع يعجبه جعفر العمدة.. ومن لا تعجبه روجينا تعجبه حنان مطاوع.. ومن يفرح لطلة أحمد عيد الجديدة غير من يفرح لصفارة أحمد أمين.. إحنا كتير.. ومبدعونا مثلنا.. ليسوا واحدًا.. وجميعهم ليسوا أنفارًا نشحنهم فى عربة واحدة.. لكل منهم لون ومعنى وقيمة.. وقيمتهم جميعًا أنهم أبناء تلك البلاد الكبيرة التى لا تتوقف عن الحبل والولادة فى كل المجالات.

 

من منّا منذ عام أو يزيد كان يتخيل أن لدينا ممثلًا كبيرًا اسمه محمد رضوان.. من منا كان ينتظر ظهور أحمد داش... من منا تخيل أن يكون هشام الجخ أحد شعراء دراما رمضان وأحد ممثليها.. ميزة دراما مصر أنها وفى كل عام تفتح شبابيك الإبداع عن آخرها وتلقى إلى العالم من بنات إبداعها.. وليتلقف من يريد من تمرها وعنبها وزيتونها.. وفى كل عام هناك جديد. 

 

لا أحد يلاحقنا.. لا أحد يطاردنا.. لا أحد ينافسنا.. من قال إننا فى الأصل نشغل بالنا بهذه الأمور الصغيرة.. نحن صغيرنا كبير وعظيم ومختلف.. وأبناء مهنة الكتابة فى هذا العام ذهبوا بعيدًا بأفكارهم ولم ولن يمنعهم أحد. 

 

ناصر عبدالرحمن على سبيل المثال.. كاتب معروف.. له سوابق طيبة فى عالم السينما وفى الدراما التليفزيونية فى مقدمتها جبل الحلال.. ناصر تعود جذوره إلى بلدتى سوهاج.. وهو من أبناء جيلى أيضًا الذين غادروا الصعيد لكن أساطيره وأفكاره وحواديته لم تغادرنا.. جمع فى صدره من هذه الحكايات الكثير.. وتصادف أن يقدم لنا هذا العام مسلسلين دفعة واحدة.. أعتقد أن الأمر لم يكن مقصودًا.. لكن الشاهد فى الأمر أنه مؤلف واحد.. لكنه يقدم فكرتين بعيدتين تمامًا وإن ارتدتا الزى الصعيدى.. «ستهم».. الصعيد الأقرب إلى الأقصر وقنا... غير الصعيد الذى جاء منه الكوماندا جابر أبوشديد.. إلى حوارى القاهرة.. ستهم يطرح قضية الميراث فى الصعيد.. لكنه لا يطرحها بنفس منطق مدحت العدل فى «عملة نادرة».. فى ستهم تبدو فكرة القهر أكثر حضورًا.. فهى التى تدفع ستهم أو روجينا إلى التخلى عن نفسها وروحها إلى شخص آخر فى صور رجل.. تتخلى عن حياتها ونفسها وعالمها حتى تستعيد ما تظن أنه من حقها.. مثلها مثل كثيرات فى مصر.. تبيع كل الدنيا من أجل أن تتحقق وتنتصر ومن بين ما تنتصر عليه ذلك الجهل الذى يخلط بين الأرض والميراث.. الصعيدى لا يتخلى عن الأرض.. ولذلك لا توجد مشكلات مع من كان ميراثها مالًا أو عقارًا... وهذه تفصيلة ربما نشرحها فيما بعد لمن لا يعرفون الصعيد والقانون الذى يحكم تصرفات أفراده... المهم أن هناك من يرى أن هذا لا يحدث فى الصعيد حيث لا تسمح العائلات عندنا بعمل المرأة.. وهذا صحيح.. لكنه موجود أيضًا.. فالصعيد لم يعد عائلة كبيرة واحدة كما أنها الدراما التى تبحث عن الاستثناء وليس القاعدة.. ناصر عبدالرحمن نفسه الذى اتخذ من قضية تار مفتاحًا لفكرة مسلسله «ضرب نار» يهرب بعدها بطله أحمد العوضى إلى القاهرة فيتورط فى الحب وفى العمل غير المشروع ليعيش صراعه المزدوج.. وتستمر الحكاية.. هناك من يرى تشابهًا مع بعض مشاهد فيلم الهروب لعاطف الطيب.. ويقارن بين العوضى وزكى والأخير لا يمكن أن نقارن به أحدًا.. الغرض.. أحد مبدعينا.. ومن شباك واحد طار بنا إلى عوالم مختلفة.. تنتقد الرحلة أو بعض تفاصيلها.. نعم.. ومن حقك قطعًا.. لكنك فى النهاية دخلت إلى المسرح.. أصبحت شريكًا لنا فى الفرجة.. وهكذا هو الحال مع ما يزيد على ألف مبدع شاركوا... وما يزيد على ألف غيرهم ستعرض أعمالهم فى النصف الثانى.. نعم هم بالآلاف وليس العشرات.. وكلهم نجوم مصريون يعملون من أجل رسم ابتسامة على وجوه أهلنا.. ومن أجل تمرير رسالة كانت وستظل هى الأهم.. مصر المبدعة.. تبنى.. وتزرع.. وترسم.. وتلون.. وتحصد.. وتغنى.. مصر الواحدة المتعددة كما هى فى كل وقت وكل حين.