رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ولدت بمصر

قبل عامين تقريبًا اتصلت بى مذيعة تدعونى إلى برنامجها، وأنها قررت أن تتصل بنفسها بسبب ما سمعته عنى، والذى لا أعرف ما هو؟، وقالت: «أمامك ساعة كاملة تقول فيها كل اللى تعرفه»، رحبت بها بالطبع، وشكرتها، وقلت لها «وكنت صادقًا معها» إن كل ما أعرفه لا يحتاج أكثر من خمس دقائق، تغيّرت لهجتها فجأة وقالت باستغراب: «يعنى الإعداد بيخدعنى؟» ووعدتنى باتصال آخر لم يحدث، الأسبوع الماضى هاتفنى ناشر شاب يريد أن ينشر مذكراتى، سألته: مَن قال لك إننى عندى مذكرات؟، أو مَن قال لك إن فى حياتى ما يستحق، وطلب منى اللقاء لنتحدث فى الموضوع!، مساحة الحرية فى الغرب تسمح للأديب أو السينمائى أو الرسام أو السياسى أو الصحفى بأن يكون صادقًا وهو يكتب سيرته، ولا يشغل باله بمحامٍ ينتظر الإشارة للدفاع عن شرف الأمة بسبب سطر فى كتاب، ولا بورثة وأقارب المبدع الذين يخافون على «شرف العيلة»، ولا متشدد دينى يعتبر نفسه حامى حمى الفضيلة والدين، المبدع ينبغى أن يشعر بحريته، فى المعمل وفى الجامعة وفى رواياته وأفلامه، وفى كتابة مذكراته، فى الثقافة العربية توجد متاريس راسخة تمنعك من الاعتراف، بالطبع الاعتراف فى الثقافة الغربية جزء من التكوين الدينى بداخل هذه الثقافة، لا توجد مذكرات حقيقية كثيرة لأدبائنا الكبار، باستثناء أوراق العمر للحر الدكتور لويس عوض، التى لم تطبع مرة أخرى بسبب أسرته، التى رأت فيها كلامًا غير لائق عن بشر من العائلة ماتوا منذ قرون!، يوجد أشخاص يذهبون لكتابة سيرتهم لأسباب غير أدبية، كأن يكون الواحد منهم مضطرًا إلى الدفاع عن نفسه إذا كان من الذين شغلوا مناصب، أو الذى يعتقد أن تاريخه ملحمة يتجاهلها سيئو النية، معظم من كتبوا سيرهم ليسوا جبناء بالطبع، ولكن ثقافة المجتمع «المتدين بطبعه» لن تستسيغ الحديث عن نزوات «هم منغمسون فيها أصلًا»، أنت تريد أن تعرف الشخص الذى أثر فى تكوينك وثقافتك، وأغنى بلدك بإبداعه وسيرته، الأستاذ نجيب محفوظ لم يكتب سيرته لهذه الأسباب، ولكنه مع رجاء النقاش تحدث بحرية عن حياته ونزواته وخروجاته فى بدايات العمر.

اختفت كتب السير الملهمة من التى كتبها أصحابها، أو من التى تفرغ لها محبو الشخصيات المؤثرة، لعزوف الناس، ولانحدار مستوى كتب ومذكرات المشاهير، ربما منذ كتاب الأستاذ خالد محيى الدين «والآن أتكلم»، بالطبع توجد بعض السير الصادقة الملهمة، مثل الأيام لطه حسين وكتاب لويس عوض والباب المفتوح للطيفة الزيات ومذكرات عبدالله الطوخى وشريف حتاتة وفتحية العسال ومؤخرًا مذكرات محمد سلماوى، وغيرهم، من الذين اعتبروا هذه الكتابة استكمالًا لمسيرة وطريقة تفكير، وهناك كتب لا تعتبر سيرًا، ولكنها تستدعى أزمنة وأشخاصًا وأحداثًا لا تشغل كتاب التاريخ التقليديين، مثل كتاب عصر ورجال لفتحى رضوان «فى جزءين» الذى يؤرخ لتاريخ مصر بين ثورتى ١٩١٩ و١٩٥٢ من خلال الحديث عن الأدباء والمفكرين، هذه النوعية من الكتب لم تعد تشغل أحدًا، ربما بسبب عدم اهتمام الباحثين بسير المؤسسين، لانشغالهم بما هو أهم، والذى لا تعرف ما هو؟، بين الحين والآخر أعود لقراءة كتاب محمد سعيد العريان: حياة الرافعى، لأنه من أحب الكتب إلى قلبى، لأنه يلقى الضوء على زمن ومعارك أدبية لا تخلو من خفة الظل، وعلى سيرة شخصية فريدة، مكتوب بمحبة، العريان «١٩٠٥- ١٩٦٤» أحد كبار كتاب زمنه، وتستهوينى أيضًا مذكرات وسير الأوروبيين الذين عاشوا فى مصر فى القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، لأنها ترسم صورة للحياة الاجتماعية والسياسية تختلف كثيرًا عما يكتبه المصريون عن أنفسهم، علماء الآثار عالمهم أكثر غنى، لأنه ملىء بالحكايات بعيدًا عن العاصمة وقصور الحكم، والمكتبة العربية نقلت عشرات وربما مئات الكتب التى كتبها هؤلاء، إلا أن العزوف الرسمى عن تاريخ الحضارة المصرية، جعل الناشرين لا يرحبون بهذه النوعية من الكتب، ولكن بين الحين والآخر يصدر كتاب ضمن مطبوعات وزارة الثقافة يستوقفك صاحبه ومحتواه، وكيف كانت الحضارة المصرية القديمة عزيزة على المصريين فى لحظات المد الوطنى، لدرجة أنه حين رحل سعد زغلول عن عالمنا وحدث خلاف على شكل مقبرته: هل تكون على الطراز الإسلامى أم الفرعونى؟، ينتصر أنصار الخيار الثانى، ويوجد كتاب صدر عن المشروع القومى للترجمة قبل عشر سنوات اسمه «ولدت بمصر منذ ٤٧٠٠ عام» تأليف جون فيليب لويز وكلودين لوتورنور ديسون، ترجمه عن الفرنسية وقدم له حسن نصرالله، يكشف كيف فتحت بطن الأرض أمام العلماء والمغامرين والساسة، وكأن هذه الأرض وهذه الكنوز ليس لها صاحب، لويز مولود فى باريس ١٩٠٢، فى ١٩٢٦ وصله خطاب من ابن عمه يطلب منه المجىء إلى مصر، لأن مصلحة الآثار تحتاج إلى مهندس معمارى يعمل لعدة أشهر، لتتغير حياته ويعيش حياته كلها فى مصر، ويبدو أنه عمّر كثيرًا لأنه تحدث عن زاهى حواس وفاروق حسنى ووقائع قريبة، يحكى فى الكتاب عن جروبى وقهوة الفيشاوى التى يجلس إليها الكاتب الشاب نجيب محفوظ، عمل مع معظم علماء المصريات، وعاش بمنزل صغير بسقارة، أسهم فى أعمال عظيمة فى الترميم والاكتشافات، تحدث عن مهزلة ترميم كتف أبوالهول، والأهم يعرض تحولات مصر من الملكية إلى الجمهورية وزيارات عبدالناصر ومبارك، سقارة وزيارات الملوك والرؤساء الأجانب بعين مدققة، وكانت أمنية حياته العثور على قبر إيمحوتب وقبر المهندس الذى شيد هذه المجموعة، تحدث باحترام عن الملك فؤاد وعن فاروق، ومعيار الوطنية عنده هو عدم الرضوخ للإنجليز، طبعًا لأنه فرنسى وليس مصريًا! حكى عن مؤامرة تهريب رأس نفرتيتى إلى ألمانيا، الذى اكتشفه المعهد الألمانى للآثار الشرقية فى تل العمارنة، عاصمة أخناتون بقيادة بورخاردت «أحد أوائل المعماريين الأثريين والأول الذى اهتم بالعمارة المصرية كما هى»، الذى أبعد العمال حتى لا يلحظ أحد شيئًا، مصلحة الآثار تشترط بوضوح «أن الآثار المكتشفة تبقى ملكًا لمصر، وتلك التى يمكن إخراجها هى التى يوجد لها أكثر من نموذج، أو تلك التى لا تحمل قيمة تاريخية أو ألا تكون وثيقة فريدة»، بوخاردت أخرج الملكة من مخبئها وعرضها فى متحف برلين، وثارت الدنيا: كيف خرج عمل كهذا؟، واتخذت الحكومة المصرية قرارًا بمنع الألمان من إجراء أى حفائر، ما داموا لم يرجعوا تمثال الملكة، إلى أن تعهد الوزير الألمانى البارون فون شتوهرر للملك فؤاد بأن بلده قرر أن يرد لمصر التمثال النصفى للملكة، أيام وصل هتلر إلى السلطة، وطلب أن يرى التمثال، وبعدها كان على فون شتوهرر أن ينقل للملك فؤاد تلغرافًا من برلين يعلمه بوقاحة «فخامة أدولف هتلر الزعيم المستشار، بعد طلبه رؤية التمثال النصفى للملكة نفرتيتى بمتحف برلين وقع فى غرامها، ويأسف بشدة لعدم استطاعته مفارقتها!» ومن الحكايات الحزينة فى الكتاب، حكاية زكريا غنيم، الأثرى المصرى الطموح الذى عمل مساعدًا لـ«لويز» والذى حقق نجاحات باهرة، وحاضر فى أمريكا وكان غيورًا على مصر وآثارها، وصدر عنه كتاب فى لندن، هذا الرجل بسبب الغيرة وبسبب نجاحاته اتهم بسرقة «آنية»، وجدها جون فيليب لويز، الذى يحكى «فكرت فى متحف القاهرة، حيث مئات من الأوانى المستخرجة من الدهاليز الموجودة أسفل الهرم قد وضعت فى مخازن المتحف، وأمضيت ساعات طويلة فى فحصها، وفجأة وفى ركن وقعت عيناى على الآنية التى أبحث عنها، أمسكت بدليل براءة زكريا، وكتبت له لإخباره بالنبأ السعيد».. لم يقرأ زكريا الرسالة.. لأنه فى اليوم نفسه ألقى بنفسه فى النيل.