رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بهجت وإدريس.. من باب الأدب والذوق

زى ناس كتير من المصريين والعرب أصبحت عملية الفرجة على التليفزيون فى الموسم الرمضانى أو غيره نوعًا من البهجة غير المكلفة.. نمارسها باعتيادية ودون عناء.. يعنى ما فيش أسهل من أنك تسند ضهرك وتمد إيديك للريموت وتدوس زرار.. المتخصصون من أهل النقد وأهل الصناعة لا يفعلون ذلك، وكذلك الأمر بالنسبة لمستويات عديدة ليس أقلها مراكز قياس الرأى العام. 

من هذا الباب أحاول الدخول كل عام.. وأضع لنفسى معايير تجعلنى أُفضل عملًا فنيًا عما عداه.. فليس من المعقول أن أشاهد كل المعروض على كل الشاشات فى نفس الوقت رغم توافر الآلية التى تسمح بذلك فى وقتنا الحالى.. وأول هذه المعايير اسم مؤلف العمل ومُخرجه.. وربما أغير ما قررت بعد حلقة واثنتين.. وربما تدفعنى كتابات البعض مدحًا وذمًا لمشاهدة عمل لم يكن فى خطتى. 

هذا العام ومنذ أسابيع مضت قررت الانحياز إلى «مذكرات زوج» و«سره الباتع».. و«ضرب نار» و«ستهم».. الباتع والمذكرات لأنهما مأخوذان من أصول أدبية لكبيرين من أسطوات الصنعة أحبهما وأجد أن من يتصدى للتعامل مع أفكارهما تحدٍ يستحق المجازفة والفرجة.. يوسف إدريس، سيد القصة القصيرة فى مصر والعالم العربى، لم تقترب السينما منه كثيرًا.. لكن تبقى تلك المحاولات القليلة فى سجلات الفن السابع.. النداهة والحرام مثلًا.. التليفزيون لم يفعل هذا كثيرًا أيضًا.. ربما لا أذكر إلا تلك المحاولة التى تمثلت فى تقديم مسلسل «البيضاء» من سنوات بعيدة.. شباب كثيرون كانوا أكثر تمردًا وقدرة على المجازفة وقدموا أفلامًا قصيرة مهمة مثل «بيت من لحم» و«لماذا أضأت النور يا لى لى».. وفى كل الأحوال مجرد التفكير أننا سنشاهد عملًا من بنات أفكار ذلك المدهش فهذا أمر مبهج فما بالك وهى.. «سره الباتع».. وما بالك ومخرجها يغامر بتجاربه واسمه المهم فى عالم السينما فى تجربة هى الأولى.. والجدير بالإشارة أنه يشرك أحد أهم شعراء الجيل الجديد فى كتابة العمل وهو مصطفى إبراهيم.. وقبل أن أشاهد الحلقة الأولى توقعت ألا يكتفى خالد يوسف بملامح النص الأصلى.. وهو ما حدث.. إذ إنه لم يكتف فى رحلة بحثه عن جينات المقاومة عند المصريين بأى محاولة لاستلاب هويتهم بحكاية ملهمة بامتياز هى حكاية واحدة من ملاحم التصدى للغزو الفرنسى، لكنه أراد بذكاء شديد أن يصل ما انقطع.. وأن يقوم حامد ابن الحاضر برحلة البحث عن حامد الماضى فى ظل استهداف آخر وآنى لتلك الهوية وحتمًا ستمضى بنا الحكاية إلى الكشف عن أجمل ما فينا.. عن تلك القوى الخفية التى لا نعرفها.. عن روح مصر الوثابة التى تظهر فى اللحظة المناسبة لمواجهة كل محاولات طمس الهوية مهما اختلف نوع الخونة والمتآمرين.. رحلة يوسف وفريق عمله الذى يخوض تحديًا ليس سهلًا فى عملية المزج تلك لم تنتهِ بعد ولن تنتهى بنهاية الحلقات.. لكنها قد تكون أوصلت الرسالة الأهم.. نحن منتبهون وسنظل كذلك ومهما بلغت التحديات.. وأستطيع القول إن يوسف وفريق عمله وحتى الحلقة العاشرة من «سره الباتع» لم يخذلونا ولم يخن نص يوسف إدريس المدهش ولا فكرته شديدة الوضوح.. الأمر ذاته حدث مع عمنا أحمد بهجت الذى قرر محمد سليمان عبدالمالك أن يستدعيه ليحتفى بنا وبعقولنا فى محاورة شديدة الرقى مع نصه البديع «مذكرات زوج».. ورغم أن العمل ذاته سبقت معالجته، فإن سليمان أضاف إليه شخوصًا جديدة وخطوطًا درامية ملهمة جعلت من البطل والبطلة ليس مجرد حالة.. الشخوص المضافة أكسبت حكمة أحمد بهجت وخفة دمه فى آن واحد مهارات جديدة فى تحليل أسرار الملل الزوجى التى يعانيها الرجال والنساء على السواء وفى كل الأزمنة.. نجح طارق لطفى هذا الموهوب ومعه معظم أبطال العمل فى تقديم أنفسهم لنا فى سباقات جديدة كنا نحتاجها أكثر منهم. 

هذان العملان تحديدًا.. يستحقان الإشادة والاحتفاء ليس لإعادتهما فقط لعالم الأدب الحقيقى.. ولكن لأن صناعهما احترموا عقولنا أولًا.. ورغبتنا فى الاستزادة من فنون القصة والرواية لكبار كتابنا ومن الأجيال الجديدة أيضًا.. فمصر كانت ولا تزال تملك ذخيرة غير محدودة من التراث الأدبى الذى يصلح للمنافسة والإدهاش وصناعة الوعى.. 

هذه ليست قراءة نقدية قطعًا.. فللنقد التليفزيونى المتخصص شروط تحايلت عليها.. فلكل عمل مفردات أكبر بكثير.. وفى كلا العملين ما يستحق أن نتوقف أمامه من أول التتر وحتى آخر نغمة فى موسيقى النهاية.. وربما نفعل ذلك فى نهاية الشهر الكريم.