رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الصوم على «الأرجوحة»

احتضنت أشهر الخريف أغلب أيام شهر رمضان خلال حقبة السبعينيات. هلال رمضان عام ١٣٩١ هجرية أطل على العالمين يوم ٢٠ أكتوبر ١٩٧١. كان الخريف قد بدأ بالزحف على أيام رمضان منذ أواخر الستينيات، ثم تمدد فى الحقبة التى تلتها. تسلى المصريون برمضان فى محاولة للهروب من أحزانهم التى خلّفتها النكسة، فرمضان بالنسبة للمصريين فرصة للانخلاع من قسوة الأيام، ووسيلة لتجديد الأحاسيس، وغسل الأحزان، والغرق فى أفراح الروح، فحين يضعف جسد الصائم تستيقظ روحه وتحلّق بأجنحتها فى السماء، لكن ما أسرع ما ينكسر الأمل فى معجزة الخروج، حين ينتفض الجسد مستعيدًا نشاطه من جديد، لتخبو شعلة الروح، وتتصدر النفس الأمّارة بالسوء المشهد.

رمضان السبعينيات هو رمضان «الأرجوحة»، فقد عاش المصريون أيامه متأرجحين بين آلام وآمال كثيرة، تأرجحوا بين الفانوس الشمعة والفانوس البطارية، بين الكنافة اليدوية والأخرى الآلية، بين النور المقطوع والبيوت المضيئة، بين اللاسلم واللاحرب، بين الرغبة فى تحرير الأرض والسقوط فى نكسة جديدة، بين السلفية والعصرنة. رمضان السنوات الأولى من السبعينيات كان متأرجحًا بامتياز، عاش المصريون خلاله حالة «رقص على السلم»، مثلما عبّر المبدع الراحل «لينين الرملى» فى المسلسل الرمضانى الإذاعى «سها هانم رقصت على السلالم»، وهو المسلسل الذى تم وقف بثه بسبب اتهام بعض المتشددين الدينيين له بأنه يحض على الفجور والخلاعة فى الشهر الفضيل. فكرة «الرقص على السلالم» عبّرت عن وطن بأكمله كان يرقص على السلم.

شاء الله أن تقع المعجزة التى منحت أهل رمضان بابًا للخروج من الحالة التى عاشوها لست سنوات، وكان ذلك فى شهر رمضان عام ١٣٩٣ هجرية الذى أطل هلاله فوق سماء المصريين أواخر شهر سبتمبر ١٩٧٣، فى اليوم العاشر من الشهر الكريم كان عبور قناة السويس، وتدمير خط بارليف، ووضع المصريون أقدامهم على أرض سيناء لأول مرة منذ ست سنوات. المفاجأة كانت مدوية، لم يصدق الكثيرون ما يقوله المذياع خلال الأيام الأولى للحرب، لكن الأغلبية اطمأنت بعد أن جاءت الأخبار من إذاعات أجنبية تؤكد الخبر وتحكى المعجزة التى صنعها المصريون.. فرحة الناس كانت عارمة، الألسنة فى البيوت تلهج بالدعاء مع كل أذان مغرب بأن ينصر الله عبده ويعز جنده. تصدرت صفحات الجرائد، التى تحمل صور الأسرى الإسرائيليين وأيديهم مشبكة على أقفيتهم، فتارين محلات الكنافة والقطائف. حين ألقى السادات خطاب النصر أواخر رمضان عام ١٣٩٣ هجرية «١٤ أكتوبر ١٩٧٣» تفاعل المصريون معه كما لم يتفاعلوا من قبل، لكنهم وجدوا أنفسهم من جديد فوق الأرجوحة، بعد أن وصلت إليهم أخبار الثغرة يوم ٢٤ أكتوبر.

تلوّن الشهر الكريم باقى سنوات السبعينيات بلون الحرب وتوابعها، وتأرجح الصائمون من جديد بين الحزن والفرح. الأحزان وجدت طريقها إلى الأسر التى كان يوجد لها شباب فى حصار الثغرة، ولك أن تتصور حزن أم تنتظر ابنها، أو فتاة تنتظر خطيبها، أو زوجة تنتظر زوجها، أو أب كهل ينتظر عودة ولده وسنده فى الحياة، أما الأفراح فقد ظهرت جلية فى رمضان عام ١٣٩٤ هجرية، الذى أطل هلاله خلال النصف الثانى من سبتمبر ١٩٧٤، وتعاصرت الذكرى الأولى لنصر أكتوبر مع أيامه الأخيرة. فرحة الصغار والكبار خلال هذه الأيام كانت كبيرة وجليلة، لأول مرة نرى فى سماء مصر صواريخ ملونة تنطلق، وطائرات تستعرض فى السماء احتفالًا بالذكرى الأولى للنصر.. تمازجت الفرحة بعيد النصر مع البهجة بعيد رمضان فدفعت بنوع من الهدوء إلى القلوب التى عشش فيها الإرهاق منذ العام ١٩٦٧، ثم غرقت فى بحر لُجّى من السخرية وهى تشاهد كوميديا «مدرسة المشاغبين» التى أذيعت لأول مرة بمناسبة عيدى النصر والفطر.

وإذا انتقلنا بالمشهد إلى أيام رمضان خلال النصف الثانى من السبعينيات فسوف نجد أن رمضان عام ١٣٩٧ مثل نقطة فاصلة بين حياتين عاشهما المصريون، أو قل أرجوحة جديدة من بين أراجيح رمضان تلك الحقبة. فبعد البهجة بالنصر أطلت المشكلات المعيشية بوجهها القبيح، خفاش الفقر يطوى تحت أجنحته الكثير من الأسر بسبب الغلاء وارتفاع الأسعار، وغول الانفتاح يفتح فمه لابتلاع من لا يستطيع الصمود، والإحساس بالانكسار المعيشى يعشش فى الكثير من النفوس. قبل أن يهل هلال رمضان عام ١٩٧٧ «١٥ أغسطس» كانت قد جرت أحداث كثيرة فى حياة المصريين، أبرزها أحداث ١٨ و١٩ يناير، وما أعقبها من إفساح الطريق أمام الجماعات الإسلامية داخل الشارع المصرى، أضف إلى ذلك التقارب المصرى الأمريكى الآخذ فى النمو. وبعد أن مر رمضان، ودخل المصريون فى شوال وذوالقعدة، إذا بهم يفاجأون بقرار السادات الذهاب إلى إسرائيل فيما عرف بمبادرة السلام، وهى الزيارة التى جرت أحداثها خلال عيد الأضحى عام ١٣٩٧ هجرية. تشارك الجميع فى الاندهاش وهم يسمعون السادات يعلن عن زيارته إسرائيل، بعض المندهشين رفضوا الخطوة، وآخرون سرحوا فى سيارات المعونة الأمريكية التى ستأتى محملة بالدقيق والسكر والسمن رمضان المقبل!

كل الأحداث خلال رمضان الحقبة السبعينية كانت تضع المصريين على الأرجوحة، بما فى ذلك استطلاع الهلال، فقد تأرجح تارة ما بين الحسابات الفلكية والرؤية الحسية، وتأرجح أخرى بين الأخذ بما تقول به المملكة العربية السعودية أو الأخذ بما عليه حال الهلال فى مصر. وقد حدث فى أحد أعوام النصف الثانى من السبعينيات أن عاش المصريون حدثًا رمضانيًا فريدًا، حين فوجئ المصريون بعد عشاء يوم ٢٨ شعبان بمن يصرخ فيهم بأن غدًا صيام!. اندهش الناس فالكل يعلم أن الرؤية فى الغد «٢٩ شعبان»، هرعوا إلى الراديو يستمعون إلى بيان شرعى صدر عن دار الإفتاء يقول إنه بناء على ثبوت هلال رمضان فى السعودية سنصوم، وكان هناك فارق «يوم» بين شعبان مصر وشعبان السعودية، أخذ الناس داخل البيوت يطرقون أبواب بعضهم البعض للإعلام بالخبر، ودوت ميكروفونات المساجد تزف للناس أن غدًا صيام، وهرول الناس إلى الشوارع لشراء السحور، فى مشهد شديد الإثارة، ما زال عالقًا بأذهان من عاصروا حقبة السبعينيات.

كان رمضان هذه الحقبة صيامًا على الأرجوحة بامتياز.