رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«أيام العطش والحرب 5».. حسنين السيد: حملت جرحى ثلاثة أضعاف وزني

حسنين السيد
حسنين السيد

ظل في الجندية لثمان سنوات كاملة، وكان يعمل على إخلاء الجرحى، هو الشاعر والمقاتل حسنين السيد، والذي كتب عن الحرب ديوانه "أنشودة العطش"، وله العديد من الحكايات عن حرب اكتوبر، الدستور التقت حسنين السيد في واحدة من حوارات سلسلة “أيام العطش والحرب”

كيف يمكنك أن تصف أيام أكتوبر ومعايشتك لها؟

بادىء ذي بدء.. يجب أن نعلم أن المجتمع المصري ليس له مثيل بين مجتمعات العالم منذ نشأ على ظهر البسيطة؛ والتركيبة  الأساسية له مترابطة من خلال مايسمى  بـ " الحسْ الجمعي" أو " الشعور الجمعي" ـ وبخاصة وقت المحن والخطوب والأزمات المجتمعية الطارئىة ـ ؛ وذلك برغم وجود شرائح مختلفة بين السكان من حيث "الغنى والفقر"؛ فهو مجتمع يشبه "الحارة" التي تُعد (المعادل الموضوع للوطن)؛ وبين جدران مبانيها وبيوتها يشعر الإنسان المصري بالحماية وبأنها الملجأ والملاذ الآمن الدائم بين جيرانه وابناء جلدته؛ بل يُعدون انفسهم ـ على اختلاف توجهاتهم الفكرية والسياسية والعقائدية ـ كالعائلة الواحدة ؛ بل تشعر من خلال هذا التعاطف والتلاحم أن هذا المجتمع نسيج واحد؛ بل تكاد تتشابه أطباق وجباتهم؛ وكأنهم يأكلون على " طبلية" واحدة.. بامتداد الحارة/الرمز! والجميل في هذا المجتمع أن يتبادل المسلم والمسيحي الهدايا في المناسبات والأعياد الدينية .. وأقول في ذات قصيدة: "وفي قلب سانت تريز تشوف مسلمها بيقيد الشموع، رهبة وخشوع"؛ ويوجد بالفعل من يذهب تبركًا ليوقد شمعة في مذبح كنيسة؛ كذلك يذهب الأقباط  إلى مساجدٍ بعينها لإرسال (رسائل) إلى صاحب المقام؛: لاعتقادهم بتلك الوساطة الروحية بين صاحب المقام والله سبحانه وتعالى.. فتلك هي الفطرة التي قام عليها المجتمع المصري العظيم منذ بدء التاريخ. 

وردًا على سؤالك عن معايشتي لحرب أكتوبر: إن "حرب أكتوبر" لم تكن مفاجأة لهذا المجتمع؛ لأن الجموع كانت تشعر أن تلك الأوضاع تحت نير الهزيمة الطارئة لن تدوم؛ وأن "يوم النصر" آتٍ لامحالة؛ وكانت أيام أكتوبر وما تحقق في الساعات الاولى منها؛ بمثابة التأكيد على أن كرامة الشعب المصري فوق كل مؤامرات الغرب لإخضاع هذا الشعب الأصيل صانع الحضارة منذ فجر التاريخ.

حسنين السيد

ـ أصدرت ديوان "أنشودة العطش" هل عنيت العطش كعطش لأن الحرب كانت في نهار رمضان أم رمزية من رمزيات الشعر؟ 

 

* "اللغة الشعرية" تسبح دومًا في بحار "المجاز" والإسقاط والرمز؛ والعمل الدائم على ابتداع أشكال رمزية تبعث على دهشة المبدع قبل المتلقى! فالقصيدة لابد وأن تحمل في بنيتها.. كل ما تعارف عليه من قوانين "النص الشعري"؛ من حيث: اللغة والدلالة والحقيقة والصورة والتجلي.. والرمز! فليس كل "نص" أدبي يُعد شعرًا!.

و"العطش" هُنا.. ليس هو "الظمأ " والحاجة إلى "ريْ" العروق وسائر الأعضاء.. بل هو العطش إلى الحق والخير والجمال والحب والعدل.. والحرية!!.

ـ هل ترى إننا في مصر أكفينا حرب أكتوبر من التناول في الأدب والفن أيضًا؟

لا أستطيع أن أقول أكفينا تلك الحرب حقها في التناول الأدبي والفني؛ ولكن الإبداع الفني والأدبي كالنهر لا يتوقف عن الجريان؛ والمبدع المصري لايتوقف عن الابتكار والسعي لمنح إبداعاته صك "الخلود" عبر الزمان؛ كما فعل أجدادنا العظماء؛ حين قاموا بنحت الانتصارات في معاركهم على أعمدة المعابد في كل أنحاء مصرنا المحروسة . 

ـ ماالذي يمكنك فعله  في رأيك حتى نكرس لأكتوبر كملحمة عبقرية؟

مبعث حضارة الأمم ونهضتها؛ يتلخص في الاهتمام بالسياسة التعليمية؛ فهي حجر الأساس لخلق أجيال متعاقبة من المثقفين الواعين العالمين بتاريخ بلادهم وحضارتها؛ وأن "مصر المحروسة" هي صاحبة الإرهاصات الاولى في صنع الحضارات التي يتغنى بها العالم؛ فـ"التعليم" يُعد بمثابة القلب للجسد النابض بالحياة؛ وهو الذي يمد الشرايين بإكسير النهضة والتقدم والعلو بين الأمم شرقًا وغربًا ؛ وعلى القائمين على إعداد مناهج التعليم في المدارس والجامعات والدراسات العليا؛ أن يضعوا نصب أعينهم التعريف الدائم بتاريخنا والشرح التفصيلي للمعارك التي خاضها الشعب المصري من أجل الحرية والكرامة. 

ـ هل يمكنك أن تحكي لنا عن أيام العطش والحرب في أكتوبر.. وكيف تذكرك لهذه اللحظات؟

أسعدتني الأقدار أن أعيش أيام "حرب الاستنزاف ـ 1969/1970 " ـ أثناء فترة التجنيد التي قاربت على ثمان سنوات ـ  كملحق على "سرب الهليوكوبتر" بقاعدة ألماظة الجوية؛ للمشاركة في مساعدة عمليات ما يسمى بـ"إخلاء الجرحى والشهداء" من المواقع التي أصابها الضرر بالقصف الإسرائيلي لبعض المواقع داخل العُمق المصري وقرى الدلتا والصعيد؛ فكانت مشاركتي في عمليات الإخلاء للجرحى والشهداء؛ بعد قصف "مخازن الإمداد الفني بالخانكة" صبيحة يوم 13 يناير 1970؛ وكانت تلك هي أول مشاهداتي الحياتية لمشاهد "الموت الجماعي" في عنابر وورش الإمدادات الفنية"، وعندما أخذتني المفاجأة إلى مايشبه الدوار والتفكير في مصائر هؤلاء الشهداء والجرحى .. كانت صرخة و" زغدة في كتفي" من الرقيب/على عامر؛ الذي يشاركني في عملية الإخلاء ليقول: لاوقت للرومانسية ياشاعر ! وتنبهت على مايشبه المعجزة في أنني أحمل على ظهري بعض الجرحى أو الشهداء  مايساوي وزني ثلات مرات أو أكثر؛ وأجري مسرعا بما أحمله على أكتافي ـ إضافة إلى السلاح والذخيرة ـ  بين نفق طويل من النيران وصناديق القنابل والذخيرة!! وكان الإحساس بالمسئولية تجاه كرامة الإنسان والوطن؛ هو مايصنع الحافز للصمود والمجابهة .. وكانت تلك الذكريات الجميلة.. برغم ظلال الأحزان التي تغلفها، لتبقى مصرنا المحروسة ولتنتصر بقلوب ابنائها العظماء الشرفاء.

ـ هل هناك أعمال شعرية أو أدبية تكرس لتجربتك في حرب أكتوبر يمكن أن نراها فيما بعد ؟ 

 الأعمال الفنية والقصص الأدبية كثيرة بأقلام الأدباء المصريين، وعلى الأجيال الجديدة أن تقرأ وتفهم وتعي.. ولعل السينما المصرية والدراما التليفزيونية، قاموا بتقديم العشرات من الأعمال المأخوذة عن بعض القصص والوثائق التي يحتفظ بها أرشيف المتحف الحربي ودار الوثائق القومية، ويجب على الأدباء والشعراء الإضاءة للشباب على تلك الأعمال التي تُعلي من قيمة الانتصارات في معاركنا الحياتية؛ ليظل التواصل الخلاق بين الأجيال الآنية والمستقبلية. 

ـ  هل ترى أننا بحاجة لمسابقات أدبية تكرس لهذه النوعية من الأدب؛ بحيث يمكن كثيرًا استلهام روح أكتوبر في الأعمال الأدبية؟

بالتأكيد.. نحن في أمسْ الحاجة إلى تلك المسابقات الأدبية ـ وبخاصة ذات العائد المادي ـ لأن عملية التفرغ للكتابة الأدبية والتأريخ لمسيرتنا التنموية في مجالات الثقافة والفن، تستوجب الاهتمام والعناية بحياة وكرامة الأديب؛ كي يعكف على مداومة الإنتاج في مجالات الإبداع كافة ؛ فالكاتب هو الذخيرة الحيَّة للوطن في كل زمانٍ ومكان، وأعتقد أن وزارة الثقافة المصرية تقوم بهذا الدور، على قدر الميزانيات المخصصة لهذا الشأن؛ ولكن لابد من زيادة تلك المخصصات وزيادة مكافآت "التفرغ" للكتاب الجادين المتحققين في مجالات إبداعاتهم القصصية والروائية والشعرية، وليتركوا للاجيال حصيلة كافية لإشباع نهم المتعطشين غلى هذا النوع من الأنتاج الأدبي والفني. 

حسنين السيد

ـ كيف ترى أكتوبر وما المناطق المجهولة التي تحتاج إلى تأريخ في رأيك؟ 

ستظل "حرب أكتوبر" شاهدة على صلابة وشهامة وشجاعة ووطنية المصري منذ فجر التاريخ؛ وهناك الكثير والكثير من الأعمال الفدائية التي تمت في أعماق "سيناء" أثناء حرب الاستنزاف؛ لم تزل لم يُكشف عنها الستار، تلك الأعمال الفدائية التي قام بها ضباط وصف ضباط وجنود، ومازالت في حاجة إلى صياغتها بأقلام من كان منهم على قيد الحياة إلى اليوم؛ وهناك بعض العمليات التي ترى القيادة السياسية والعسكرية أن تظل في طي الكتمان لعدم الكشف عن "استراتيجيتها" لاعتبارها من أسرار الحرب التي لايعلمها إلا القلة من المتخصصين في العمليات الفدائية خلف خطوط العدو، وفي حدود معلوماتي أن جمعية المحاربين القدماء؛ لديها مجموعة يُطلق عليها اسم "رجال من ذهب"؛ وتلك المجموعة تحاول الاتصال بمن هم على قيد الحياة حتى اليوم، للإدلاء بشهاداتهم ومشاهداتهم في تلك الحرب، وأتمنى أن يقوموا بإصدار بعض الكتب في هذا الصدد في القريب العاجل بمشيئة الله تعالى. 

لماذا لم يتم عمل مشروع كتاب كامل عن أدباء عايشوا الحرب للتعبير عنها ووضعها في المكان المناسب لها كحرب تحرير عظيمة؟

للإجابة عن هذا التساؤل المشروع، فإنني أتوجه معك بالسؤال إلى السادة صناع القرار في الوزارات السيادية، وعلى رأسها "وزارة الثقافة " التي يجب أن تقوم بهذا الدور الحيوي، وتكون هي رأس السهم في الانطلاق نحو تحريك وتحفيز الهمم في قطاعات وزارة الدفاع والحربية، للتنقيب عن الأبطال الذين قاموا بأعمال فردية وجماعية متفردة، شهد بها العدو قبل الصديق، ويجب توثيق تلك الشهادات بالفيديو صوتا وصورة، وانضمامها إلى المتحف الحربي للاطلاع عليها من الأجيال الجديدة من الشباب؛  ومكافأة من يوثقون تلك الشهادات بالنياشين والدروع، لتكون عقل الأمة في صراعاتها المستديمة مع قوى الشر والجهل، تلك القوى التي تعمل على طمس الحقائق التاريخية وتجهيل الأجيال بتاريخ الأمة المصرية صانعة الحضارات.