رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الولايات المتحدة تصنع «فيلق الموت»

في يناير 2002، انتقد الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج دبليو بوش، إيران والعراق وكوريا الشمالية، في خطابه عن حالة الاتحاد، مُحذرًا من أن »دولًا مثل هذه وحلفاءها الإرهابيين يشكلون محورًا للشر، يتسلح لتهديد السلام في العالم«.. وفي حين لم تكن أي من هذه البلدان نموذجًا للفضيلة، فإنها لم تكن تتعاون مع بعضها البعض أو مع تنظيم القاعدة.. بعد عقد من الزمان، خلال الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2012، حذرت سياسة المرشح »ميت رومني« الخارجية من محور ناشئ من الاستبداد.. وقتها، تم رفض تحذير رومني، ولكن على مدار العام الماضي، تبنى المراقبون من مختلف الأطياف السياسية الفكرة بكل جدية.. وبات عدم الارتياح الغامض الذي يشعر به المراقبون الأمريكيون، مرده أن معظم دول جنوب العالم، لا توافق على فرض عقوبات على روسيا، وهذا يُغذي الخوف من أن الكثير من العالم يتحد ضد الولايات المتحدة.
وقد وجهت موسكو الكثير من النقد اللاذع نحو الغرب خلال العام الماضي، وباتت هناك حقيقة محرجة حول إعادة توجيه السياسة الخارجية لموسكو بعيدًا عن الغرب، ونحو حلفاء مثل الصين وإيران، وإن كانت النُخب الروسية ليست سعيدة تمامًا بشركائها الجدد، بل كان هناك الكثير من التذمر حول النسبة الضئيلة من الدعم الصيني لبلادهم، على سبيل المثال، وهذا يعكس غطرسة روسية طويلة الأمد تجاه جارتها الشرقية، يعود تاريخها إلى أيام ستالين وماو ماو، بل إن الازدراء الروسي الموجه نحو إيران أكبر.. هذه المشاعر متبادلة، فقد أعرب الصينيون عن سخط كبير من تصرفات روسيا في أوكرانيا.. فبالنسبة لهم ، خلق الغزو وضعًا استراتيجيًا اعتقدوا أنه موات للصين.
وعلى الرغم من هذه الاستياء المستمر، إلا أن العام الماضي علَّم كل هذه البلدان درسًا مهمًا: بقدر ما قد يكون لديها مشاكل مع بعضها البعض، فإن لديها مشاكل أكبر بكثير مع الولايات المتحدة.. خلال العام الماضي، بينما فرضت الولايات المتحدة عقوبات واسعة النطاق على روسيا، اتخذت أيضًا منعطفًا متشددًا للغاية تجاه الصين، وتراوحت السياسات التي تعبر عن هذا الشعور، من ضوابط التصدير الصارمة، إلى الدعم العام لتايوان، إلى حظر تطبيق التيك توك، وفي الوقت نفسه، واصلت إدارة بايدن سياسات الوضع الراهن تجاه إيران،  وفشلت الجهود المبذولة لإحياء الاتفاق النووي الإيراني.
هذا يترك الدول الثلاث تحت درجات مختلفة من أنظمة العقوبات التي تقودها الولايات المتحدة.. ومما لا يثير الدهشة، أنها بدأت في العمل معًا بشكل أوثق.. إيران في المراحل النهائية من الحصول على العضوية الكاملة في منظمة شنغهاي للتعاون، وهي منتدى أمني تقوده الصين وروسيا.. ساعدت الصين في التوسط للوفاق بين إيران والمملكة العربية السعودية.. حتى أن الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرج »قلق بشكل متزايد«، من أن الصين قد تزود روسيا بالأسلحة لمساعدة أوكرانيا.. زادت العلاقة بين إيران وروسيا خلال الحرب في أوكرانيا، حيث وصفها المتحدث باسم مجلس الأمن القومي، جون كيربي، بأنها »شراكة دفاعية واسعة النطاق«.
هنا، يقول دانيال دريزنر، أستاذ السياسة الدولية في كلية فليتشر للقانون والدبلوماسية بواشنطن، إن لدى الولايات المتحدة أسباب وجيهة لمعارضة الدول الثلاث.. فهي ترى الصين منافس تصرف بطريقة استبدادية وعدوانية بشكل متزايد خلال حكم شي جين بينج.. ولا يزال النظام الإيراني غير ليبرالي إلى حد كبير، ويتبع سياسات هددت حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.. تصرفات روسيا في أوكرانيا تتحدث عن نفسها.. ومع ذلك، عندما نلتفت إلى المزاعم التي تقول بأن كوريا الشمالية تبيع أسلحة إلى روسيا، يبدو هنا كما لو أن الولايات المتحدة قد خلقت »فيلق الموت«.. وبات هذا التحالف الناشئ يغذي الميل الأمريكي لتجميع جميع خصوم الولايات المتحدة في نفس السلة.
من الصعب إنكار، أن روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية وغيرها، تتخذ إجراءات تتعارض مع المصالح الأمريكية.. ومع ذلك، من الواضح أن التعاون بين هذه البلدان مجرد »تكتيك« في طبيعته.. بالنسبة لإيران وكوريا الشمالية، فإن أي فرصة لتعديل موقف الولايات المتحدة والخروج بهما من عزلتهما الاقتصادية الحالية، هي خطوة مرحب بها.. وبالمثل، فإن روسيا بحاجة ماسة إلى المساعدة من أي جهة، كوسيلة لمكافحة الخسائر التي تلحقها العقوبات والحرب بالاقتصاد الروسي.. كل المظالم والمخاوف التاريخية التي لدى روسيا والصين وإيران في التعامل مع بعضها البعض لم تختف بطريقة سحرية، بل لقد تم تساميها ببساطة من خلال مقاومتها الجماعية للضغط الأمريكي.
يمكن للولايات المتحدة الرد على هذا التحالف الناشئ بإحدى طريقتين، كلاهما غير مقبول.. أولهما، النظرة المانوية للعالم والاستمرار في اعتماد سياسات تعارض هذه المجموعة من البلدان في المستقبل المنظور.. عندما يفحص المرء كل دولة في »فيلق الموت« الناشئ هذا، فإن الولايات المتحدة لديها أسباب وجيهة للعقوبات وغيرها من أشكال الاحتواء.. وتسعى إيران إلى تنفيذ برنامج للأسلحة النووية وبرنامج للصواريخ الباليستية، وأنفقت أموالًا كبيرة لزعزعة استقرار حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.. غزت روسيا جيرانها مرارًا وتكرارًا وتتحمل مسئولية بدء أكبر حرب برية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.. دبلوماسية الذئب المحارب في الخارج والقمع المتزايد في الداخل لا تتوافق مع كونها صاحبة مصلحة مسئولة، إنها كوريا الشمالية.
المشكلة الأكبر هي أن النظرة المانوية للعالم تتجاهل الطرق، التي لا تعد ولا تحصى، التي ازدهرت بها السياسة الخارجية الأمريكية، عندما قسمت التحالفات المتعارضة بدلًا من توحيدها.. كان أحد العناصر الرئيسية في عقيدة جورج كينان في الاحتواء، هو استغلال الشقوق في الكتلة الشيوعية.. أدى ذلك إلى ارتفاع درجة حرارة العلاقات مع يوغوسلافيا تيتو في 1950، والصين ماو في 1970..  لم يكن أي من هذين البلدين يشبه أي شيء قريب من الديمقراطية الليبرالية، لكن الولايات المتحدة وجدت قضية مشتركة معهم للتركيز على التهديد الأكبر »الاتحاد السوفييتي«.. بطريقة غريبة، تكمن هذه النقطة في جذور معارضة الحزب الجمهوري لدعم أوكرانيا ضد روسيا.. بالنسبة للبعض في حشدMAGA ، فإن الصين هي التهديد الأكبر ، وبالتالي فإن أي معارضة لروسيا، إما تُضيع جهدًا أو تدفع أكبر قوتين بريتين في آسيا إلى التقارب.
المفارقة بالنسبة لصانعي السياسة الأمريكيين، هي أنه من بين جميع الدول التي تعارض الولايات المتحدة، فإن الصين هي أكبر تهديد، والدولة التي ستكون أكثر نضجًا للتواصل الإيجابي.. بكل المقاييس، الصين هي الدولة الوحيدة التي تقترب من أن تكون منافسًا نظيرًا للولايات المتحدة، ومعارضة الصين تُعد واحدة من السياسات الخارجية القليلة التي تلقى دعمًا حقيقيًا من الحزبين.في واشنطن.. في الوقت نفسه، وبالمقارنة مع دول مثل روسيا، أو كوريا الشمالية، فإن الصين هي عضو »فيلق الموت« الذي يتمتع بأكبر قدر من الأسهم في النظام الدولي الحالي.. السبب الرئيسي وراء محدودية دعم الصين لروسيا حتى الآن، هو أن بكين تستفيد أكثر بكثير من تجارتها مع بقية العالم أكثر من روسيا.
بالنسبة لصانعي السياسة في الولايات المتحدة، سيكون السؤال في المستقبل، هو الاختيار من بين مجموعة من الخيارات الصعبة.. يمكنهم الاستمرار في تنفيذ سياسة خارجية تُولِد تحالفًا مناهضًا للولايات المتحدة.. يمكنهم إعطاء الأولوية لاحتواء الصين وتخفيف نهجهم تجاه البلدان التي تشكل تهديدًا أقرب للولايات المتحدة وحلفائها وشركائها.. أو يمكنهم أن يقرروا أن الصين هي الشيطان الذي يعرفونه بشكل أفضل، وأن يحاولوا تعزيز توازن جديد في العلاقة الصينية ـ الأمريكية.
ونظرًا للحالة غير المستقرة التي يعيشها العالم، فإن إصلاح العلاقات الصينية ـ الأميركية، هو الخيار الذي يقدم أكبر قدر من الأفضلية.. ولكن بالنظر إلى الحالة غير المستقرة للسياسة الأمريكية، فمن المؤسف أن هذا الخيار قد يكون الأقل احتمالًا لتبنيه، من كلٍ من الرئيس جو بايدن وخصومه الجمهوريين.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.