رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر التى لا نعرفها «2-2»

رأينا فى المقال السابق كيف احتفظت مصر بمكانتها الاقتصادية ودورها الحضارى والدينى فى العصر الرومانى والبيزنطى، على الرغم من فقدانها «الاستقلال» السياسى. والآن سنحاول تقديم رؤية مختلفة لمرحلة تاريخية يعتبرها البعض ذروة تدهور الأحوال فى مصر، بل وصفها البعض بعصور الظلام، وأقصد بذلك فترة الوجود العثمانى فى مصر.

والحق أن هذه الفترة بدأت بداية درامية عندما أسقط السلطان سليم العثمانى دولة سلاطين المماليك، هذه الدولة التى كانت تحكم مصر وبلاد الشام والحجاز، وكانت القاهرة قاعدة حكمها. ويعتبر إعدام السلطان طومان باى المملوكى وتعليق جثته على باب زويلة، وحزن أهل مصر على رحيله، بداية لعصر جديد، لم تعد مصر فيه قاعدة لحكم سلطة كبرى، وإنما ولاية تابعة للباب العالى فى إسطنبول.

ومع ذلك لم تفقد مصر مكانتها الاقتصادية؛ إذ سرعان ما عادت أهمية طريق التجارة العالمى عبر البحر الأحمر، بعد اكتشاف وعورة طريق رأس الرجاء الصالح، والتكلفة الكبيرة للالتفاف حول إفريقيا. ولم تعد البهارات هى السلعة الرئيسية فى التجارة الشرقية، وإنما أُضيفت إليها سلعة جديدة غيّرت التاريخ الاقتصادى والاجتماعى للعالم وهى «البن»؛ حيث دخل العالم كله عصر القهوة. 

ولم تتدهور أحوال الرى والزراعة فى مصر فى العصر العثمانى بشدة كما يرى البعض، لسبب بسيط مفاده أن مصر استمرت فى لعب دورها الاقتصادى التاريخى كسلة غذاء للعالم. ولذلك كان يجب الحفاظ على «البقرة الحلوب» حتى تنتفع إسطنبول- بل عالم البحر المتوسط- بلبنها. ربما لا تصدق أيها القارئ الكريم أن مصر كانت هى المصدر الأساسى للقمح والأرز والسكر لإسطنبول، وأيضًا لبلاد الحجاز. وتزخر المصادر التاريخية بالعديد من حوادث الاضطرابات السياسية بين قبائل الحجاز إذا تاخر وصول الغلال من مصر. وكان المطبخ السلطانى نفسه فى إسطنبول يعجز عن تقديم الحلوى للسلطان والحاشية إذا لم يصل السكر من مصر، هذا السكر الذى كانت له سمعة عالمية لجودته واستخراجه من قصب السكر. وكانت الأعشاب الطبية تُرسَل من مصر لتخدم البيمارستانات فى إسطنبول. وعندما نطالع الوثائق الفرنسية فى القرن الثامن عشر نجد أن الجيش الفرنسى فى جنوب فرنسا كان يعيش على الأرز الوارد من مصر.

ومن الناحية الحضارية لم تفقد مصر كثيرًا مكانتها السابقة؛ إذ تم الحفاظ على العمائر والأوقاف المملوكية، بل تم إنشاء العديد من الوكالات التجارية والعمائر الدينية. وعلى المستوى الدينى والثقافى سيلمع دور الأزهر كمنارة دينية وتعليمية مهمة ليس على المستوى المصرى فحسب، بل فى العالم الإسلامى أجمع. حتى أن بعض المؤرخين الأتراك كانوا يأتون إلى مصر للاستفادة من مكتباتها الشهيرة. وفى ذلك العصر سيضع العلامة الزبيدى أحد أشهر قواميس اللغة العربية «تاج العروس».

وعلى المستوى السياسى ستستمر مصر فى لعب دورها التاريخى، كما لعبته فى العصر الرومانى والبيزنطى؛ إذ ستحافظ القاهرة على مكانتها باعتبارها المدينة الثانية فى العالم العثمانى بعد إسطنبول. وسيخشى السلاطين العثمانيون دائمًا من والى مصر، من هنا سرعة تبديله بشكل دورى، حتى لا يستقل بمصر، ويشكل سلطنة جديدة تنافس إسطنبول نفسها. ويحتفظ لنا التاريخ بعدة محاولات من ولاة مصر للاستقلال عن الدولة العثمانية. لكن المحاولة الأشهر فى القرن الثامن عشر هى مشروع على بك الكبير للاستقلال بمصر، بل منافسة الدولة العثمانية نفسها، اعتمادًا على إمكانيات مصر الاقتصادية والبشرية، وموقعها المهم. ورغم فشل على بك الكبير فى تجربته، فإنه كان فى الحقيقة «بروفة» أولى لمشروع محمد على واستقلاله بمصر فى مطلع القرن التاسع عشر. فلم يُحيى محمد على مصر من مواتها، كما يحلو للبعض ترديد ذلك، ولكن قرأ جيدًا تاريخها، وأحسن إدارتها واستطاع الاستفادة من إمكانياتها الاقتصادية والبشرية، ونجح إلى حد كبير فى تأسيس «الدولة الحديثة» فى مصر.

هذه هى مصر التى لا بُد أن نعرفها.