رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«مشوار المشى».. رؤية فلسفية وسيرة ذاتية مستمدة من رحلات السير اليومية على الأقدام

مشوار المشى
مشوار المشى

فى تلك القصة الطويلة «مشوار المشى»، للكاتب روبرت فالزر، من ترجمة د. نبيل الحفار، الصادرة عن منشورات الجمل، نحن بصدد قصة شديدة الجمال والعذوبة، مُصاغة بلغة شاعرية يشعر القارئ أثناء قراءته بجمال مفرداتها. فنحن لسنا أمام قصة عادية تمتلئ بالفانتازيا أو الخيال العلمى أو الحب، إنما نحن بصدد قصة مليئة بالأفكار المتمردة الشائكة والمهمة التى ربما تأتى على بالك وأنت فى مشوار مشى، وتتطلع إلى الأمام ربما إلى السماء أو أفكار تراودك وأنت ترقد على سريرك وتسبح فى ظلام الغرفة، حيث اللا مكان، فكلنا نشترك فى قدرة التفكير وطرح التساؤلات لكننا نختلف فى معناها وجوهرها، فكل يفكر على طريقته. وعلى نحو غامض وسرى تتسلل إلى المتمشى أفكار مشى متنوعة، جميلة ورهيفة، تجعله يتوقف وهو غارق فى مشى نشيط يقظ، فيثبت وينصت، وهو مأخوذ حتى الغرق فى انطباعات غريبة نابعة من سطوة أرواح ساحرة ومحتار، ويخامره شعور وكأن على الأرض أن تبلعه فجأة، أو كأن هاوية تنفتح أمام عينى المفكر والشاعر.

«الماشى يرافقه دائمًا شىء غريب مشحون بالأفكار والفانتازيا، وسيكون من الحمق ألّا يهتم بهذا الجانب الفكرى أو أن يقصيه عنه؛ وهو لا يفعل ذلك بل إنه يرحب بكل الظاهرات الفريدة والغريبة، يصادقها، يربط نفسه معها بأواصر الود لأنها تفتنه، فيسبغ عليها هيئات ذات جسام وماهيات، يمنحها ثقافة وروحًا، مثلما تلهمه هى بدورها وتعلمه». وأثناء مشوار المشى يطرح الكاتب أفكاره من خلال الحديث عن تفاصيل الطبيعة والجمال والفن وما شبه ذلك، ومن خلال الشخصيات التى يقابلها فى الطريق والأماكن التى يلجأ إليها كالمخبز والمصرف ومصلحة البريد ومصلحة الضرائب ومحل الخياطة ووجبة خفيفة مع سيدة عجوز ذات أفعال عجيبة، وحوار مع امرأة فى قارعة الطريق عن موتسارت والفن. هو مشوار تسكعى مريح ظاهريًا لكنه ملىء بأعباء عملية. وقد استخدم الكاتب هنا أسلوبًا ذكيًا ومتفردًا فى طريقة السرد، فالكاتب يُعد هو بطل القصة، وفى الوقت نفسه يتحدث إليك وأنت تقرأ ويقوم بمداخلات طريفة مع القارئ فتشعر أنك شخصية من الشخصيات التى بُنيت عليها القصة لتصبح مكتملة ولن تكتمل القصة دون وجودك ومشاركتك.

أديب مرهف الحس وباحث فى الآثار والطبيعة، يتجول فى أنحاء المدينة لنشاهد بعينيه أدق التفاصيل، فهو يحب الهدوء والبساطة فى كل شىء، فقد أغضبته لافتة المخبز الذهبية المبالغ فيها، بينما أبناء الفقراء فى الشوارع لا يجدون ما يستر جسدهم، فيقول الكاتب فى الرواية: «وحق الرب، يحق للرجل الشريف أن يشعر بالسخط لمرأى مثل هذه البربرية فى كتابة اسم المخبز بحروف ذهبية، تسِم المكان الذى نقف فيه بطابع الأنانية والجشع للمال وعنف الروح بصورة عارية بائسة. هل يحتاج حقًا مَعلم خباز بسيط ونزيه للإعلان عن نفسه بمثل هذا التفخيم، لأن يسطع تحت الشمس بلافتة ذهبية وفضية ولأن يلمع مثل أمير أو مثل سيدة مغناج مريبة؟ فليخبز ويعجن خبزه بشرف وبتواضع يتماشى مع العقل! فى أى عالم مخادع سنعيش أو قد بدأنا نعيش، إذا كان أهالى النواحى والجوار والرأى العام لا يفضون النظر فحسب، بل للأسف الشديد يمتدحون هذه الظاهرة، التى تهين كل حس سليم وتفكير صائب وذوق جمالى وإنصاف أخلاقى، ظاهرة التباهى المَرضى بأن يسبغ المرء على نفسه مظهرًا مبتذلًا مضحكًا».

مشوار مشى ملىء بالمشاوير والمتطلبات، ملىء بالملاحظات، فكما قال الكاتب فى الرواية: «فمن أين آتى بتلك الأحداث والملاحظات التى يمكن أن أكتب بسببها رواياتى وقصصى إلا من خلال مشاوير المشى التى أقوم بها، فما اتصالى بالعالم سوى من خلال تلك المشاوير».

حوار فلسفى ملىء بالمشاعر والأحاسيس اكتسبها هذا العمل، والآن بعد اطلاعى على قصة حياة «روبرت فالزر» أستطيع الجزم بأن هذا العمل نوع من السيرة الذاتية ووصف دقيق لكل ما عاشه فى الحقيقة، كان يحب المشى لدرجة أنه توفى بين الثلوج فى أحد مشاوير المشى. قد لا تجد أحداثًا معينة، قد لا تجد مغامرة، أو فلسفة محددة، ولكن هنا روح الإنسان وحدها، عارية أمام نفسها، وأمام الطبيعة. فالرواية على قدر هدوئها، إلا أنها مليئة بالكلمات العميقة التى خرجت من نفس الكاتب معبرة عن ألمه من عزلته، والكتابة ليست سوى خير وسيلة للتعبير عن آلام الشخص.