رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جنينة مجدى يعقوب

فى الريف حيث يعيش أكثر من ميت مليون مصرى لا نعرف معنى... الخروج على المعاش... ما يعرفه أهل الريف هو الخروج على المعايش... لذا كثيرًا ما تأخذنى صورة الرجل فوق سن الستين إلى فيلم قديم من أيام الأبيض والأسود... كل من عرفتهم فى طفولتى هناك يشبهون بعضهم... الرجال والنساء... أيادٍ خشنة وضهر مصلوب ورأس تنظر إلى السماء... جميعهم مثل طلاع النخل... ذلك الرجل السبعينى الذى يلف المطلاع المصنوع من الليف حول جسده العارى إلا من صديرى وسروال عبك طويل.... وأقدام مشقوقة سمراء تجد طريقها إلى أعلى قبة النخلة القديمة عبر كرنيف حاد لاسع يدمى... لكنه لا يتأوه... فقط ينشد يا الله حتى يصل... ثم يخلع السلاع المؤلم من الجريد ويفسح له مكانًا بالقرب من قلب النخلة يجنى تمرًا ورطبًا يساقط فوق رءوسنا جنيًا... هذه الصورة لا أعرف لماذا أعتبرها هى الشكل الموحد للمصريين الذين يخرجون إلى أعمالهم فى المصانع والغيطان والورش... وفى مجدى يعقوب... 

الأمر ليس غريبًا... هؤلاء الأجداد والأعمام الذين أعرفهم يشبهون ذلك الطبيب الذى بدأ رحلة هى الأنقى والأجمل بعد السبعين من العمر... نفس الملامح... ملامح الأرض الحرجة تجدها فى شرايين وجه ذلك الرجل الذى أبهر الدنيا ولا يزال... هى ملامح ذلك الصياد الذى يخرج فجرًا فوق مركب صغير قديم مصنوع من خشب لا لون له بعد أن أزاح الغبار لونه الأصلى يلقى بشبكه فى النيل الواسع... أو فى ترعة جنابية ثم يعود لجمع ما فرد وفى القلب منه سمك طيب من طيبات ما رزق الله... ذلك الصياد هو نفسه طالع النخل هو نفسه مجدى يعقوب ابن الشرقية والفلاحين... هو نفسه الذى تعلم فنون صيد الحياة من فم الموت... هو نفسه الفلاح الذى تعود جذوره إلى قلب الصعيد المنيا... وربما لهذه الجذور علاقة ما باختياره لأسوان ليجعل منها مكانًا لمركزه الذى يزرع فيه القلوب الجديدة ويصنع الحياة... 

 

سيرة مجدى يعقوب التى أتمنى أن يكتبها أحد مبدعينا قريبًا لتتحول لعمل درامى نحتاجه... تلك السيرة التى نحتاجها فى مقررات الدراسة لأولادنا فى وقت مبكر... تلك الأغنية التى يجب ألا نتوقف عن ترديدها أبدًا هى سر الحياة... سر المصريين الذين لا يخرجون إلى المعاش... ولكن إلى حيوات جديدة لا تنتهى... أبكانى الرجل وهو يتحدث لبرنامج تليفزيونى منذ أيام عن القلب المكسور... وكيف أن الحزن يميت القلب... وإن ذلك ما كان سوف يحصل له لو أنه سايره بعد وفاة زوجته... ثم يشرح الرجل ببساطة جراح عالم... مش درويش ولا بتاع بخور... كيف أن أسرته حولت ذلك الحزن إلى فرح بتذكر آلام وتفاصيل حياتها وأيامها الحلوة... مجدى يعقوب المواطن المصرى الذى يعرف حقيقته... يقول إن قلوب المصريين مختلفة... ثم يحيل الأمر إلى العلم... وينبه إلى ضرورة فحص المقبلين على الزواج وبخاصة من الأقارب لوجود احتمالات أكبر للإصابة بأمراض القلب... وأهم ما توقفت حياله فى حديث الطبيب الإنسان الذى حول نقطة سوداء فى أقصى الجنوب إلى مركز إشعاع وبيت رحمة للعالمين... هو قوله إنه لن يتوقف عن العمل وإنه يتمنى أن يموت واقفًا وهو يعمل.. ألم أقل لكم إنه هو نفسه طالع النخل... يبدو أنه النخل نفسه... 

 

سيرة يعقوب الذى يحلم بمركز طبى جديد لعلاج قلوب الناس المتعبة بالمجان وفى القاهرة هذه المرة... هى سيرة هذه البلاد التى لن تتوقف عن السعى مهما ظن الناس الذين لا يعرفونها أنها شاخت... وكلما اشتدت الحرب عليها من الجهلة وبياعين الوهم والخرافة والمتاجرين بالأجساد والأقوات استلفت قلبًا جديدًا إلى جوار قلبها المتعب... ودومًا ما تجد من بين أنجالها من هم مثل ذلك اليعقوب يضخ فى شرايينها أنهارًا... وحيوات أخرى... 

 

هل يمكنك أن تتخيل أن عددًا غير قليل من شبابنا يفكر فى التقاعد فى الخمسين وربما أقل؟... هل تعرف أن الآلاف يفكرون فى المغادرة والرحيل... وآلافًا آخرين يهربون داخل منازلهم وأنفسهم أسرى لليأس والخوف والحزن... هؤلاء يحتاجون دومًا إلى درس مجدى يعقوب الذى ترك الخارج بكل ما فيه... الشهرة بكل ما فيها... السفر بكل ما فيه... المال بكل ما فيه... وعاد إليها.. لا ليتقاعد ويستريح أمام شاشة تلفاز أو ليكتب مذكراته... ولكن ليحلم ويصنع من أحلامه القديمة أحلامًا جديدة... يدهشنى مجدى يعقوب وهو يتحدث عن شباب الأطباء فى مصر أولئك الذين منحهم فرصة التعلم وهم فى بلادهم... ومنحهم ما هو أهم فرصة أن يصبحوا بشرًا... 

العشرات من أهل قرانا فى الصعيد كانوا يطلبون منى أى وسيلة اتصال بمركز يعقوب فى أسوان لحاجتهم لإجراء جراحة عاجلة لابن أو قريب... وكلما أخبرت أحدهم أن الرجل لا يعرف الواسطة... وأن عليهم الذهاب إلى هناك بأنفسهم كانوا يستغربون ويظنون أننى أتقاعس عن خدمتهم... وأحس لحظتها باليتم والعجز والقهر فى عيونهم... وبعد أيام أو شهور... أشاهد تلك العيون وقد امتلأت بالدموع وهى تحكى كيف ذهبوا فعلًا إلى هناك بدون واسطة وكيف أن الأطباء أنقذوا طفلهم... ثم يستمرون فى حكايات من شاهدوهم هناك وبنفس طريقتهم فى تلاوة سير الأولين يحكون عما يفعله الرجل وما تفعله ابتسامته فى المرضى وأهاليهم... 

 

قصر الكلام... هذا الرجل الريفى المصرى... لا يحتاج إلى ما أكتبه لكننا نحتاج أن نحكى حكايته ليل نهار... ربما نعرف... وفى هذه الأيام بالذات كيف نزرع الحب والحياة فى حديقته التى اتسعت حتى صارت العالم الأجمل.