رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البوردرلاين

صدر حديثًا كتاب عنوانه (حكايات البوردرلاين وكسات قصيرة متقطعة) وهو كتاب ساخر وممتع  صدر حديثًا في مصر للكاتبة الشابة (سمر الشافعي).. والتي روت من خلاله حكاياتها ووكساتها الصغيرة المتقطعة مع البوردرلاين وهو (اضطراب الشخصية الحدية) الذي يدفع صاحبه الذي لا يستطيع التأقلم مع العالم المحيط به، لأنه يتألم داخليًا بشكل لا يمكن للآخرين استيعابه أو فهمه لتوجيه ألمه الداخلي في اتجاه آخر.

اتجاه (حسي) ..فالاألم النفسي للمصاب بهذا لاضطراب أشد قسوة ووطأة عليه من الألم الجسدي مما يدفع المضطرب القلق والمكتئب لإيذاء نفسه جسديًا وقد يصل الأمر للانتحار في بعض الحالات للتخلص من الحياة التي لا يحتملها وليس بوسعه التعامل مع المحيطين به أو التعايش بشكل طبيعي .. فالمضطرب يشعر بما لا يشعر به الآخر ولا يستطيع التكيف أو احتمال ما قد يحتمله الآخر .. وفي ذات الوقت لا يستوعب أو يقدر الآخر عادةً كم الألم النفسي غير المحتمل لمريض الاضطراب ذي الشخصية الحدية .. وذات الموضوع طرحه السيناريست والمخرج السينمائي والروائي والمسرحي الفرنسي االشاب  (florian ziller) 
في فيلمه الذي أهداه إلى شخص يدعى (جابرييل) ولا نعلم إن كانت للإهداء علاقة بشخص كان مصابًا بذلك الاضطراب أو أقدم بالفعل على الانتحار كما فعل المراهق (نيكولاس) في الفيلم، لكن الأكيد أن الفيلم المأخوذ عن مسرحية  كتبها (فلوريان) وتحمل ذات الاسم الذي يحمله الفيلم (the son) والذي كتبه وأنتجه وأخرجه (فلوريان) في عام ٢٠٢٢.

تمامًا كما حدث مع فيلمه الأيقونة (the father) والذي أيضًا كتبه وأنتجه وأخرجه عام ٢٠٢٠ وحصل من خلاله على تنويهات عدة من (الجولدن جلوب) والأوسكار وكان عرضه العالمي الأول في مهرجان (صن دانس) وكلا الفيلمين شارك فيهما الممثل الكبير سير  (أنتوني هوبكنز) الذي قام بدور البطولة في فيلم (الأب) بشكل احترافي وأدى دور الأب أيضًا كضيف شرف في فيلم  (الابن) وكأن فيلم (الابن) امتداد لفيلم (الأب) وكلاهما يتحدث ويطرح بعمق قضايا تخص المرض النفسي.

ولا أعرف خلفيات المبدع الفرنسي الشاب ودراسته للطب النفسي أو علم النفس، لكن الأكيد أنه مبدع مولع ومتعمق في طرح سمات أنواع كثيرة من الاضطرابات والأمراض النفسية مثل مرض (القلق ونوباته) و(الألزهايمر) والذي ناقشه بعذوبة وأدى الدور فيه بسلاسة (سير أنتوني هوبكنز) ثم اضطراب الشخصية الحدية وهو مرض وراثي ورثه الابن عن أبيه الذي كان أكثر تحملًا من ابنه الذي أقدم على الانتحار في نهاية الفيلم.
فاضطراب الشخصية الحدية أو (البوردرلاين) يصيب الأشخاص ذوي الحساسية المفرطة وممن تعرضوا في الصغر لمشاكل عائلية أصابتهم  باضطرابات في الشخصية .. وبما أن البشر مختلفون عن بعضهم البعض في قدراتهم عمومًا وفي المقدرة على الاحتمال والتجاوز ..  فقد احتمل الأب في الفيلم ما لم يستطع الابن احتماله. 
وأدى دور الأب في الفيلم الممثل الإنجليزي الكبير (hugh jackman ) والذي حمته صلابته من اضطرابات الشخصية الحدية التي أصابت الابن رغم تشابه ظروف التنشئة. 
فوالد (نيكولاس) الذي نبذه - من وجهة نظره - عندما اختار لنفسه حياة أخرى وطلق أمه وتزوج وأنجب من أخرى فشعر الابن بالفقد والخذلان وأن أباه اعتبره وأمه مجرد روث أو حثالة لا تستحق أن يبقى معها واستبدلهما بامرأة أخرى وشقيق آخر .. وعايش الابن المضطرب آلام أمه المطلقة المهجورة .. وعاش معها سنوات معاناتها وبكائها التي تشربها طوال سنوات طفولته وسمع فيها أشياء سيئة عن أبيه جعلته يشعر تجاهه بالاشمئزاز الذي صدره بقسوة لا متناهية للأب في أحد مشاهد الفيلم المركزية والتي أعقبها الانتحار كنتاج لشعوره بالنبذ والتخلي فقرر إنهاء حياته.
وقد تعرض الأب (بيتر) أيضًا مع أبيه (جد نيكولاس) لذات المشاعر، فقد ترك الجد (أنتوني هوبكنز) ولده (بيتر والد نيكولاس) مع أمه المريضة وانشغل بعمله وسفره الدائم، فكان بيتر الأب هو من يرعى أمه وهو طفل صغير ويذهب ليراها في المشفى وهي تحتضر دون أن يكون أبوه بجانبهم في تلك الظروف الصعبة ليعولهم ماديًا أو يساندهم معنويًا وماتت الأم ولم يعبأ الزوج والأب بها أو لها، ورغم ذلك تحمل بيتر الابن كل ذلك رغم الغصة والمرارة التي ظلت تلازمه حتى وهو في الخمسين من عمره وشق لنفسه طريقًاً في الحياة ونجح في حياته العملية، ثم تشبث بسعادته الشخصية فذهب لمن يحب وترك زوجته وابنه الذي لم يحتمل خذلان أبيه له كما احتمل أبوه خذلان جد نيكولاس له. 
وكانت البندقية التي أهداها الجد لابنه بيتر هي الأداة التي مكنت الابن (الحفيد) من إنهاء حياته وكأن هدية الجد الذي كان يهوى الترحال والسفر والعمل والمغامرات والصيد ولم يعتنِ أو يعبأ بأسرته كانت سببًا في انتحار الحفيد الذي لم يكن صلبًا كأبيه .. فنيكولاس كان أكثر هشاشة وحساسية  وأثقل كل ما مر به كاهله فلم يستطع أن يكمل حياته التي قرر مغادرتها لأنها لا تحتمل! 

نهاية بائسة وحزينة لا يتوقعها أو يتمناها أحد لغيره وأسهم الفيلم في إثارة وعي العامة ومشاهدي العمل لخطورة تلك النوعية من الاضطرابات التي لا يجب التعامل معها باستخفاف أو استهتار، لأن العواقب قد تكون وخيمة تمامًا كما حدث في الفيلم والذي استعرض رأي العلم والمتخصصين والأطباء في تلك الحالة وأنها تستدعي وبلا أدنى شك أن يوضع الابن المضطرب تحت المراقبة وأن يتلقى العلاج وألا يشعر الأبوان تجاهه بأي نوع من أنواع الذنب أو الشفقة وألا يستجيبوا لابتزازه العاطفي لهما. فقد شاهدنا في أحد مشاهد  الفيلم المركزية أيضًا أداءً استثنائيًا للمراهق (نيكولاس) وهو يقسم وينتحب ويتوسل لأبويه ألا يتركاه في المشفى وحوله مرضى حالاتهم أشد خطرًا منه (من وجهة نظره) وأن ذلك سيدفعه حتمًا للجنون وأن حالته ستسوء، لأن الأطباء يمنحونه الدواء ويعتقدون أنه مريض!

 فحالة نيكولاس كان فيها نوع من الإنكار ورفض الاعتراف بالمرض أو تلقي العلاج. فوصف المستشفى بالجحيم وابتز أبويه كي لا يتركاه في هذا الجحيم واعتذر لهما عن محاولته الانتحار (في الحمام) والذي كان طيلة الفيلم مسرحًا لاعتداءات نيكولاس على نفسه بنفسه مرة بالسكين وحتى أجهز على نفسه ببندقية جده!

 وقد نبه الطبيب المعالح الأبوين للخطر الذي يحيط بنيكولاس الذي أقدم على محاولة الانتحار الأولى الفاشلة وبالتالي فهو يحتاج للحماية الآن لا للحب.. فالحب وحده لا يكفي لحماية نيكولاس من نفسه .. حمايته هي الأجدر الآن .. وعندما سأل بيتر الأب الطبيب عن ماهية الخطر المحدق بابنه إن ترك المستشفى ورفض العلاج، فجاءت إجابة الطييب (إن محاولة الانتحار الأولى عادة ما تعقبها محاولة ثانية .. والخطر الذي أتحدث عنه هو شيء لا أتمناه أن يحدث لابني) وكانت إجابة الطبيب حاسمة وشافية لكن مع انهيار الابن أمام أبويه وادعائه بدهاء أن محاولة الانتحار كانت مجرد صرخة استغاثة وطلب فرصة ثانية ليثبت لهما أنه تعلم الدرس وأحب الحياة عندما اقترب من الموت، فحدثت له إفاقة جعلته يقدر قيمة الحياة وأصبح يريدها بل ويريد الذهاب لمدرسته التي تسرب منها وأن من حقه عليهما أن يمنحاه فرصة ثانية ولعب على وتر حساس لدى أبيه قائلًا له (لا تنبذني مرة أخرى بتركي في جحيم المشفى) وبالفعل انصاع الأبوان لتوسلات ابنهما والهيستريا التي أصابته عندما قررا في البداية تركه لتلقي العلاج في المستشفى ونجح الابن في جعل أبويه يخرجانه من المستشفى على مسئوليتهما الشخصية وبدا الابن فرحًا بانتصاره لرغبته في إنهاء حياته!

 فكان هادئًا رزينًا مبتسمًا مثاليًا في كل تصرفاته وجلس مع أبويه في السيارة التي أقلتهما للبيت وفرح بلم شمل الأسرة من جديد وأنه سعيد بأنهم عادوا ثلاثة ولم يعد وحده مع أمه المهجورة، فأبوه الآن معهما في البيت.. وكأنه أراد أن يكون ذلك المشهد هو المشهد الختامي لحياته فأعد لأبويه كوبين من القهوة ودخل للحمام وحدث ما حذر منه الطبيب.. محاولة الانتحار الثانية والتي كللت هذه المرة بالنجاح، وكانت ناجزة بعد أن صوب نيكولاس رصاصة بندقية جده لرأسه لينهي بها حياته! 
وبعد مرور ٤ سنوات كبر فيها أخوه الصغير (ثيو) ارتدت زوجة بيتر الجديدة ذات القرط الذي أهداه لها زوجها ليعتذر لها عن تقصيره معها وجعلها تحتمل وضعية بقاء ابنه المضطرب من زوجته الأولى معهما في البيت لتتعاقب الذكريات على بيتر فيتخيل بعد مضي ٤ سنوات على انتحار (نيكولاس) أنه جاء لبيتهم زائرًا بعد أن انتقل للدراسة في جامعة في تورنتو وأصبح مغرمًا بفتاة تدعى (لينا) سينتقل للعيش معها وأنه أتى لزيارة والده في نيويورك ومعه هدية لأخيه الصغير ومفاجأة لأبيه (أول نسخة من كتابه) الذي يحمل عنوان (الموت يستطيع الانتظار) وهو كتاب تخيل (تمنى) الأب أنه من إبداع نيكولاس الذي كان يهوى الكتابة (وهي في تلك الحالات تعتبر نوعًا من العلاج .. فالبوح وفعل الفضفضة عندما يصوغه ويعبر عنه المضطرب ويخرجه من داخله ويضعه أمامه على الورق) يسهم ذالك في تخطي وتجاوز أزماته واضطراباته.. وتخيل الأب كذلك أن (نيكولاس) قد أهدى له الكتاب وقدم له فيه الشكر والاعتذار عن السنوات الصعبة التي عاشها أبوه وأمه معه .. فالأب رسم في مخيلته سيناريو حالمًا كان يتمناه لابنه وأنه نجا من الموت والانتحار .. فالإنسان يحلم ويتخيل دومًا ما يتمناه .. وهو كان يريد لولده النجاة .. وتذكر نجاته وهو طفل صغير عندما استطاع وهو في السادسة من عمره السباحة في شاطئ (كورسيكا) وهي مدينة ساحلية تقع بين فرنسا وإيطاليا .. وكانت هي آخر رحلة جمعت الأسرة الصغيرة السعيدة وكان ثلاثتهم مجتمعين الأب والابن والأم. 
وعندما أسرع الأب بالقارب الذي يقلهم فقدت الأم قبعتها فوق سطح الماء في (كورسيكا) وكأنها تركت وراءها السعادة هناك وعادت لتتجرع عذابات الهجر مع وحيدها
وكما كان الحمام وقبعة الأم وبندقية الجد من الإشارات الهامة التي أسهمت في إيصال رسالة الفيلم للمشاهد كانت أيضًا مشاهد الغسالة المتكررة التي لا تكف عن الدوران وتحدث صخبًا موازيًا للصخب الدائر في عقل الابن المضطرب .. فالأفكار السوداوية كانت تدور في عقله ولم يستطع محوها أو إزالتها كما تزيل الغسالة البقع الملتصقة بالأنسجة .. ومع توقف الغسالة في أحد مشاهد الفيلم جاءت محاولة الانتحار الأولى لنيكولاس .. فرأسه وعقله تدور فيهما الأفكار السوداوية تمامًا كما تدور الملابس المتسخة في الغسالة .. وتوقفها كان معادلًا موضوعيًا وإشارة موازية لتوقف عقل (نيكولاس) عن التفكير في الألم بعد أن يؤذي نفسه بالآلات الحادة أو يقدم على الانتحار ليصمت ضجيج رأسه للأبد. 
وبالتالي كان الفيلم المأخوذ عن مسرحية للمبدع الفرنسي (zeller) صرخة تنبيه وتشريحًا لسمات اضطراب الشخصية الحدية (البوردرلاين) وتتكرر ذات المأساة والمعاناة التي لازمت الأب في علاقته مع أبيه في ابنه ليتضاعف لديه الشعور بالغبن والإحساس بالذنب والتقصير في حق الابن تمامًا كما فعل معه أبوه غير العابئ وهو في نفس سن نيكولاس فالكأس دوارة ومرض اضطراب الشخصية وراثي، لكنه يظهر أكثر عند من لديهم هشاشة ورهافة حسية أو حساسية مفرطة يصعب معها تقبل ثقل الحياة التي تثقل كاهل هؤلاء المضطربين المرهفين وتضاعف لديهم الإحساس بالهجر والغبن والنبذ بشكل يجعل استمرارهم في حيواتهم أمرًا مستحيلًا.