رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سلطة رجال الدين والدولة المصرية.. عبر العصور المختلفة!

(1)

منذ أن دخلت مصرُ عصورَها التاريخية قبل أكثر من خمسة آلاف عام ودشنت نظامَها ونظمت سلطاتِها المختلفة، بدأت تتبلور وتظهر على صفحات التاريخ تلك العلاقة بين السلطة المدنية الحاكمة وبين سلطة المؤسسة الدينية ونفوذ رجال الدين! 

قامت دولٌ وسقطت دولٌ، وتغير حكامٌ وتغيرت دياناتٌ، وظلت تلك العلاقة وتوابعها هى الأكثر تأثيرًا على الشعوب اجتماعيًا واقتصاديًا، وظلت فئة رجال الدين هى الفئة الأخطر فى تأثيرها على تلك الدول وعلى هؤلاء الحكام!

لمدة تقارب ألفى عام– باستثناءات قليلة معدودة – ومنذ عصر الأسرة الملكية الأولى وحتى الأسرة العشرين، أى منذ حوالى 3200ق.م وحتى حوالى 1100ق.م، يمكننا القول إن الدولة كانت هى الأقوى وهى المحركة لتلك العلاقة، أو على الأقل- وفى فترات تاريخية بعينها- كانت تلك الدولة قادرة على ترويض تلك الفئة!

 وهذا عكس ما يعتقده كثيرٌ من المصريين بأنه فى مصر القديمة كان الكهنة أقوى من الملوك. فهذا خطأ معاصر شائع! كان الملوك هم من يسيطرون على طبقة رجال الدين والمؤسسات الدينية- ممثلة فى المعابد ومواردها الاقتصادية- مما كان يُعد عاملًا مهمًا من عوامل بقاء الدولة وامتداد أجلها الزمنى وتمتع الشعب المصرى بحالة استقرار حقيقية أبدع خلالها حضارته!

لم يكن رجال الدين فى مصر القديمة يقومون بالوعظ فى الجماهير أو تعبئتهم دينيا، أو يكن لديهم فكرة تكوين ظهير شعبى لهم، أو يحاولون السيطرة على العقل الشعبى الجمعى، بل كان نفوذهم داخل المعابد، وكان الملوك يستخدمونهم فى تثبيت أركان حكمهم! 

هذه كانت الصورة العامة لمدة عشرين قرنا يتخللها بعض الاستثناءات. وحين تغير ذلك وحكم رجال الدين سقطت مصر وانقسمت مرة أخرى وتعاقب عليها مستعمرون حتى غزاها الإسكندر المقدونى بادئًا فترة حكم أجنبى امتد لقرون طويلة!

 فلقد بدأت مشاهد الضعف الأكبر بنهاية عصر الملك رمسيس الثالث، وتولى ملوكٌ ضعفاء حكمَ مصر من بعده. فبدأت الفئة الأخطر - وهى رجال الدين - فى استغلال حالة الضعف هذه بالتغول على سلطة الدولة حتى انتهى المشهد بقفزهم على كرسى العرش ومعهم الثروات المكدسة، لتبدأ مصر مع تلك القفزة رحلة انهيارها الحضارى الممتد عبر القرون!

 (2)

فى مصر المسيحية بدأ كيان رجال الدين يتخذ شكلًا مغايرًا لما كان سابقًا، ومتسقًا مع طبيعة الديانة الجديدة. فقد بدأ الالتحام بالجماهير وأصبح رجال الدين والرهبان قادة شعبيين سريين حتى أصبحت الديانة المسيحية هى الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية!

 فطن الأباطرة للمشهد فتصارعوا مع رجال الدين على السلطة الروحية وتداخلوا فى المشهد وتدخلوا فى قرارات المجامع الكنسية! أصبحت الكنيسة سلطة تناطح سلطة الدولة وغدا اقتصادها يناطح اقتصاد الدولة وأصبح قادتها يتحكمون فى حركة الشارع وتسيير الجماهير!

لم يمانع الأباطرة فى سيطرة المؤسسة الدينية على موارد اقتصادية بالغة الثراء أوالقيام بأنشطة تجارية خاصة بها، لدرجة أن تلك الموارد قد بلغت فى مشهدٍ ما قيام تلك المؤسسة بإقراض الدولة ثمن شحنات قمح!

فى تلك الحقبة عرفت مصر ولأول مرة فى تاريخها فكرة التعصب الدينى وتكفير الآخر، بدءًا بتطرف الرومان ودمويتهم ضد المسيحيين، ثم مرورا بتطرف المسيحيين ودمويتهم ضد أتباع الديانات القديمة بعد إعلان المسيحية ديانة رسمية للامبراطورية، وأخيرًا انتهاءً بالتطرف الدينى المسيحى المسيحى أو المذهبى! 

يمكن القول إنه فى تلك الحقبة تم تدشين الشكل الجديد لسلطة ونفوذ رجال الدين الذى استمر فى بلدان أوروبا لنهاية العصور الوسطى، بينما استمر إلى اليوم فى بعض بلدان منطقة الشرق الأوسط رغم تغير الديانة!

هذا الشكل هو وجود مؤسسة دينية رسمية تمارس نوعا من النفوذ الجماهيرى، ولا تكتفى بممارسة دورها داخل دور العبادة، وسلطة سياسية تحاول أحيانًا كبح جماح تلك المؤسسة أو أحيانًا أخرى تزايد عليها وتبحث عن تأييد الجماهير عبر بوابتها، وأحيانا ثالثة تكون تلك السلطة السياسية من الجرأة والرؤية بأن تحاول فرض نقل المجتمع من مرحلة حضارية إلى مرحلة أخرى رغم أنف المؤسسة الدينية!

استمر هذا الشكل بثوبه المسيحى حتى الغزو العربى لمصر، حين تغيرت ديانة الحكام الجدد وبدأت سلطة دينية جديدة تحل محل السلطة الدينية المسيحية وتستولى على نفوذها الجماهيرى!

(3)

بعد الغزو العربى قامت سلطة الحكم بالسيطرة على الموارد الاقتصادية للبلاد ولم تترك للسلطة الدينية القديمة ذلك النفوذ الاقتصادى. يمكن القول أنه فى العقود الأولى بعد الغزو العسكرى لم تناطح سلطة الحكم العسكرى أى سلطة دينية، لأن تلك العقود كانت بمثابة فترة انتقالية بين تلاشى نفوذ المؤسسة الدينية المسيحية القديمة شعبيًا واقتصاديًا وسياسيًا بالطبع، وبين تدشين السلطة الدينية الوافدة الجديدة أو المسلمة!

كانت تلك العقود هى العصر الذهبى للسلطة المطلقة للحكام الجدد دون أن تنازعهم سلطة دينية موازية، وتم اختصار السلطة الدينية فى وجود بعض المسلمين الوافدين الذين تم تكليفهم بمهام إقامة الشعائر وتعليم كلٍ من أفراد الجيش الغازى وأهل البلاد - ممن سيعتنقون الإسلام - قواعد وتعاليم الدين الجديد! فلم يكن لهؤلاء أى نفوذ يمكنهم به مناطحة أهل الحكم! كما استند الحكام على فكرة عدم وجود وظيفة رجل دين فى الإسلام!

لكن بعد استتباب الأمور وتدشين المسجد الجامع – مسجد عمرو بن العاص – وتدشينه كأول مؤسسة تعليمية مسلمة فى مصر، بدأت تتشكل ملامح تلك السلطة الدينية الجديدة ممثلة فى الفقهاء والأئمة و(العلماء) بالمعنى الجديد للكلمة والمقصود بها علماء الدين بعد توارى كثير من العلوم الأخرى وعلمائها!

نعم لم يكن فى الإسلام وظيفة رجل دين، لكن أصبح هناك على أرض الواقع فئة جديدة هى علماء الدين الذين تم تدشين نفوذهم الجماهيرى شيئًا فشيئًا. يمكن القول إنه بنهاية القرن الأول الهجرى بدأ ذلك النفوذ الجماهيرى والسلطة الجماهيرية لرجال الدين فى التعبير عن أنفسهم فى مشاهد كثيرة. فى تلك المشاهد كان الفقيه أو العالم يوجه الوالى تجاه قراراتٍ بعينها تخص غير المسلمين ويترتب عليها أوضاعٌ اجتماعية جديدة واضطراباتٌ كبرى!

من ذلك اضطرار بعض الحكام للرضوخ لرؤى الفقهاء فى قضية الكنائس. يمكننا اعتبار عام 326 هجرية هو عام التدشين الرسمى للسلطة الدينية فى مصر! حيث أجبر الفقهاءُ وخلفهم العوام حاكمَ مصر الإخشيدى على الرجوع فى قراره عن ترميم كنيسة!

منذ ذلك التاريخ بدأت السلطة الدينية المسلمة فى مصر ممارسة نفوذَها فى مشاهد علنية بعضها كان فى غاية العنف، واتخذ ذلك النفوذ شكلًا واحدًا، تهييج العامة لإجبار الحاكم على اتخاذ موقف معين، و(ماستر سين) ممارسة هذا النفوذ كان فى العصر المملوكى كما وثقه المقريزى عام 721 هجرية، حين وقفت سلطة الحكم عاجزة تماما عن كبح جماح السلطة الدينية التى هيجت العامة فقاموا بهدم غالبية كنائس مصر وعقب ذلك حرقُ القاهرة وكثيرٍ من مساجدها!

ظلت تلك السلطة تمارس هذا الدور عبر العصور، وأدرك هذا كل من طمع فى حكم مصر أو احتلالها، كما فعل نابليون بونابرت فى خطابه الشهير!

ظلت العلاقة على منوالٍ واحد، كلما ضعف الحكام كلما قويت شوكة السلطة الدينية واستقوت بالعامة!

 ومنعت السلطة الدينية فى عصورٍ كثيرةٍ جدًا قيام سلطة الحكم بخطوات تحديثية تعليمية أو إنشائية فى البلاد مما ألقى بمصر فى هوة حضارية كبرى استفاقت منها مع غزو الفرنسيين!

(4)

فى العصور الحديثة التى تلت خروج الحملة الفرنسية من مصر، حاول بعض الحكام ترويض نفوذ رجال الدين، بعضهم نجح وغالبيتهم خشى المواجهة وآثر الحفاظ على عرش الحكم! تبقى محاولة محمد على هى الأشجع والأقوى والأنجح، والتى لولاها لبقيت مصر إلى أمدٍ غير معلوم قابعة فى هوة الجهل السحيقة!

مع بدايات القرن العشرين ظهرت مفردات جديدة انتهت بتكريس فكرة أضافت قوة جديدة لنفوذ رجال الدين، وهى فكرة إحياء الخلافة وإضفاء طابع دينى على قصة احتلال فلسطين وتقديم رجال الدين لأنفهسم كحماة وقادة لحرب مقدسة قادمة لتحرير فلسطين وإقامة الخلافة!

حاول جمال عبدالناصر ضرب تلك القوة بتكريس بعد قومي مواز ومناطح للبعد الدينى لقضية فلسطين، وحقق بعض النجاح، لكن هزيمة يونيو أجهضت محاولته ومنحت قوة كبرى لرجال الدين فى مناطحة الدولة المصرية، وبدأت تلك القوة فى التنامى لما بعد حرب أكتوبر!

فشلت الدولة المصرية فى استغلال زخم الانتصار فى القضاء على نفوذ رجال الدين، ونكصت على نفسها ومنحت لتلك الفئة وأتباعها منحةً مجانية كبرى، بأن فتحت لها أبواب مساجد مصر وجامعاتها للاستحواذ بشكل شبه كامل على مساحات من المفترض أنها مساحات نفوذ وتواجد طبيعية للدولة!

استفاقت تلك الدولة على كارثة اغتيال الشهيد السادات ومذابح أسيوط وتزلزلت الأرض تحت أقدامها واضطرت - للسيطرة على نيران الجماعات المسلحة - أن تتمسح بالسلطة الدينية الرسمية القديمة التقليدية وتمنحها قوة جماهيرية جديدة! 

لقد اعتقدت تلك الدولة أن تلك السلطة الدينية الرسمية سوف تحفظ لها ذلك المنح بأن تقود الجماهير إلى الاقتناع بشرعية الدولة وشرعية خططها التنموية حتى فوجئت تلك الدولة للمرة الثانية بخطأ رؤيتها، وأنها قدمت منحة مجانية كبرى أخرى تم بمقتضاها السيطرة عقليًا على جموع المصريين لصالح السلطة الدينية لا لصالح الدولة المدنية!

كان الفترة من يناير 2011 وحتى مشهد انتخابات 2012م هى فترة الصدمة للدولة المصرية!

فترة اكتشفت فيها عن أنها أساءت تقدير الموقف – فيما يخص علاقتها بفئة رجال الدين - مرتين متتاليتين فى عقود أربعة فى قضية حاسمة! 

لقد خسرت تلك الدولة – وبعيدًا عن أى أداء سياسى أو اقتصادى – عقل شعبها الجمعى فى مسائل وقضايا مبدأية تخص أسس قيام الدولة، وشكلها، ومفاهيم المدنية والمواطنة، والهوية وغيرها من المسائل التى كان من المفترض أنها مسائلٌ محسومة يتم البناء عليها لإعادة الحياة للدولة!

(5)

إن جزءًا كبيرًا من أزمة الدولة المصرية بعد ثورة يونيو أنها وجدت نفسها مضطرة لخوض معارك عقلية مع مواطنيها تخص تلك الأسس المؤسسة للدول، فى وقتٍ تواجه فيه حربًا مسلحة حقيقية ومأزقًا اقتصاديًا يمكنه أن يهوى بدول كبرى للهاوية!

كان ثوبًا عقليًا مهلهلًا بشكلٍ كان يمكنه أن يحبط من يتصدرون المشهد لولا عزيمة صادقة منحها لهم الله فقرروا المحاولة!

علاقة الدولة – أى دولة – مع السلطة الدينية تتوقف على مفردات الواقع لكل دولة. فى بعض المواضع تحتاج الدولة للحسم، وفى مواضع أخرى للموائمة الوقتية، وفى مواضع ثالثة لوضع سيناريوهات طويلة الأمد للإحلال والتجديد!

خطورة نفوذ رجال الدين على الدول بدأ فى مصر مع ما يسمى بالديانات السماوية، لأنه اتخذ شكلًا جماهيريًا مباشرًا، ولأنه أصبح مؤثرًا بشكل مباشر على الاقتصاد والسياسة والحياة الاجتماعية لتلك الجماهير!

مارس رجال الدين نفوذا اقتصاديا بشكل مباشر حين وجهوا المصريين وجهات معادية للمصارف الرسمية وأباحوا تجارات محرمة قانونًا وأجهضوا جهود التنمية بتشجيع الاتفجار السكانى! كل ذلك فى وقتٍ عجزت فيه الدولة عن المواجهة، لأنها لم تكن على قدرٍ من شجاعة المواجهة!

استغرقت بعض الدول عقودًا طويلة للعبور بمجتمعاتها من مرحلة العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، وبعض الدول استغرقت قرنين أو أكثر..لكن اشترك الجميع فى تفاصيل السيناريو..هزة عقلية كبرى يعقبها تململ شعبى ثم تبدأ مرحلة البحث العقلى والمواجهة العقلية..ودفع الثمن!

يمكننى القول إنه منذ سنوات قليلة – منذ عام 2015م - فالدولة المصرية قد تحلت بقدرٍ من الشجاعة لصعود أول درجات السلم الطويل جدًا.. والآن هى – ونحن معها – فى مفترق طرق.. فهل تتحلى تلك الدولة بطول النفس، ونفس قوة العزيمة وتستكمل طريقها نحو الحداثة، أم ستمل طول الطريق وتقف عند ما تم إنجازه؟!!

أتمنى مخلصًا لوطنى أن تستمر تلك الدولة القائمة فى صعود درجات السلم التحديثى رغم أنف الفئة الأخطر فى تاريخ مصر ولا تخشى دفع ثمن المواجهة كاملًا، لأننا بالفعل – كوطن – دفعنا الجزء الأكثر فداحة من هذا الثمن وهو الدم!