رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القابضة لصناعة الأوهام فى الصعيد

منذ سنوات طويلة مضت لا أعرف عددها أعلنت الحكومة عن أنه لا توجد وظائف فى الجهاز الإدارى للدولة... كان الأمر طبيعيًا بعد سنوات طويلة من حشر الموظفين بلا خطة ولا هدف سوى إرضاء الحبايب والنواب من الحزب الحاكم وقتها حتى صار عدد الموظفين أكبر من طاقة تلك المؤسسات على كل المستويات... وعامًا بعد آخر راح البعض يبحث عن أبواب خلفية للتوظيف مرة باسم التعاقد ومرات بأسماء أخرى حتى توقف ذلك كله، وأعلنت الحكومة عن أنه لا توظيف تحت أى مسميات، وأن أى احتياج وظيفى سيتم التعامل معه عبر المسابقات... ورغم سوء أحوال الموظفين بشكل عام فإن حلم التدثر بالوظيفة الميرى ظل فى أذهان الكثيرين من أبناء بلدنا، وبخاصة فى المحافظات التى تقل فيها فرص الكسب والاستثمار كما هو الحال فى بعض محافظات الصعيد. 

ولسنوات ظلت الهجرات إلى القاهرة الكبرى والإسكندرية ومدن القنال هى البديل المؤقت الذى يحمى البيوت من السقوط فى بحر الحاجة والفقر... ثم كانت الهجرات الكبرى إلى دول عربية شقيقة، مثل ليبيا والعراق، ومن بعد ذلك دول الخليج... ورغم مرور ما يقرب من نصف قرن على بداية هذه الهجرات التى غيرت ملامح التركيبة السكانية والاجتماعية فى الصعيد، ورغم الانتشار الكبير للتعليم بمختلف أشكاله وأنماطه ظل الميرى حلمًا حتى وإن كانت النتيجة ملاليم. 

لم يتخلص الصعيد من فكرة الأمان التى تحققها الوظيفة... وزاد الأمر إلحاحًا بعد ما جرى فى العراق وليبيا، وصعوبة الحصول على فرصة سفر للخليج... وأصبح التلويح بوجود فرصة عمل فى الحكومة جائزة يسعى إليها الملايين... ورغم وقوع الكثيرين منهم فى فخاخ النصابين الذين يزعمون قدرتهم على إيجاد تلك الفرص فإن الأهالى لا يتوقفون عن البحث والحلم. 

ومنذ عام تقريبًا أعلنت الشركة القابضة لمياه الشرب فى سوهاج ومدن أخرى، عن مسابقة لتوظيف عدد ٢٧٠٠ شاب من مختلف الأعمار والتخصصات... العدد المطلوب كبير جدًا... ولم يحدث أن أعلنت الشركة ذاتها أو غيرها عن عدد مماثل... ولأن المسابقة للجميع ومن خريجى الجامعات والدبلومات تقدم إليها عشرة أضعاف الرقم المطلوب... أى ما يقرب من ثلاثين ألف شاب... وراح المتقدمون الذين دفع كل منهم مبلغًا بسيطًا نظير رسوم التسجيل يبحث عن واسطة، بين نواب الدوائر وأصحاب المقامات الرفيعة، لعل وعسى أن تأتى الفرصة... ومر عام كامل والشباب ينتظرون... من كان يفكر فى السفر قام بتأجيل سفره، ومن كان يفكر فى سبوبة ما تساعده على المعايش قام بتأجيلها... ثم أعلنت الشركة عن امتحان ومقابلات شخصية بمشاركة من جامعة سوهاج التى وضعت الامتحانات... وهنا حدثت المجزرة... الشباب الذين أرسلوا لكل الجهات فى مصر يحكون وقائع مفزعة يؤدى جميعها إلى أن ما حدث مجرد نصباية... وأن تلك الأرقام التى أعلنت عنها الشركة منذ عام مجرد وهم... وأن العدد المطلوب لا يزيد على خمسين وظيفة، لكن الشركة تؤكد أن الذين تقدموا للامتحانات رسبوا.. فيما يرى الشباب أنها امتحانات تعجيزية وممنهجة لإبعادهم، ومنح الفرص القليلة للمحاسيب... جامعة سوهاج من جهتها شعرت بأنها تورطت فى الأمر، فأصدرت بيانًا قالت فيه إنها أعدت الامتحان بالشكل الذى أرادته الشركة، وإنها قدمته بالمجان خدمة لأهالى المحافظة... الشباب الذين قدموا البلاغات للنيابة واتهموا الشركة بالتلاعب وجمع الأموال والتغرير بهم اضطرت إلى فتح باب التظلمات حتى يهدأ الثائرون... لكن الشباب فطنوا إلى أنه مجرد مسكن... هذا هو ملخص القصة المزعجة بتفاصيلها الأكثر إزعاجًا... الشركة التى يعانى الناس هناك من سوء أدائها من الأصل، ففى سوهاج لا يمكنك أن تشرب كوب مياه نظيفة... وعشرات القرى عادت لاستعمال الجراكن التى تجلبها بالشراء من محطات تحلية أقامها الأهالى ويبيعونها للناس بمبالغ تبدو كبيرة بالنسبة لظروف محافظة هى الأفقر... وبدلًا من أن تعالج الشركة أعطالها، وتوفر للناس مجرد كوب مياه صالحة للاستهلاك الآدمى راحت تتفنن فى إثارة الفتن عبر مسابقات التوظيف المضروبة... ما حدث لا أعتقد أنه يرضى قيادات الشركة فى القاهرة... ولا الحكومة... ولا مجلس الوزراء والدكتور مدبولى... أن تتحول شركة ما إلى وسيلة لإشعال الحرائق فى الصعيد لهو خطر عظيم إن كنتم تعلمون... وعسى أن يتدخل العقلاء فى هذه الحكومة، وإلغاء هذا العبث فورًا، وإحالة المتورطين فيه لتحقيق عاجل، تعلن عن نتيجته للجميع، ربما تهدأ النفوس وتستكين... فأحوال العباد فى مثل هذه الظروف لا يمكن أن تخضع لأهواء وألعاب بعض الموظفين الصغار الذين لا يعنيهم سوى بعض المكاسب الصغيرة.