رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نفور مبكر من الإخوان.. محطات من حياة شيخ المترجمين محمد عناني

الناقد والمترجم محمد
الناقد والمترجم محمد عناني

لم يكن محمد عناني الذي وافته المنيّة اليوم، مُترجمًا مُتمكنًا فحسب يكفي أن تطالع اسمه على إحدى الترجمات لتطمئن إلى سلامة الترجمة وسلاستها، لكنه كان مدرسة ثقافية متكاملة تأسس في رحابها أجيال من المثقفين من مختلف المشارب والاهتمامات؛ فلم تكن عنايته باللغة الإنجليزية وتمكنه منها لتثنيه عن معرفة عميقة بالتراث واللغة العربية ومختلف الفنون.

علاقة مبكرة بالقراءة

لم تتأسس مدرسة عناني راسخة الأركان على محض صدف عابرة بل هي نتاج رحلة فكرية تأسست منذ سنوات الصبا. في الأربعينيات، وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها كان عناني قد تجاوز السادسة من العمر بينما قد اعتادت عيناه على مجلدات التراث الضخمة في غرفة المكتبة بمنزله، التي تضم أعمالًا مثل  "العقد الفريد"، و"نهاية الأرب"، و"وفيات الأعيان"، و"الأغاني"، وغيرهم الكثير. 

لم يكن فقط مشهد الكتب المتراصة هو ما ألفته عينا شيخ المترجمين في طفولته، لكن أذنيه قد التقطت عشرات القصص التي رواها له أمه وأباه. كانت الأجواء في بلدته بمحافظة البحيرة تقوده جميعها نحو عشق مبكر للقراءة وشغف بالكتابة عمومًا والشعر خصوصًا.

في الجزء الأول من سيرته الذاتية، روى عناني بعض من محطات حياته في الطفولة والمراهقة وصولًا إلى بداية المرحلة الجامعية والتي كانت القراءة صاحبة له فيها جميعًا، هذا الشغف دفعه لاقتراض حزمة من المجلات القديمة التي تُباع بالرزم من عطار يقطن بجواره مقابل نصف قرش، وفيما بعد أتيح له الاطلاع على عدد كبير من المجلات التي كانت تصدر آنذاك مثل "الهلال" و"المقتطف"، وهي تجربة كان لها أثر كبير على أسلوبه في الكتابة، لكنه كان يمتلك كتابين اعتبرهما بمثابة الكنز وهما: "ديوان الهوي والشباب" للأخطل الصغير، وديوان "شرق وغرب" لعلي محمود طه. 

حكايته  مع الإخوان 

أوجز عناني علاقته بجماعة الإخوان في جملة " أظهرتُ الموافقة وأضمرتُ الخلاف".  ففي سيرته روى محاولة مبكرة لاستقطابه من قبل الجماعة، يقول: في الصف الثالث الثانوي كنت واقفًا في الفصل أهزل مع بعض الطلبة حين اقترب مني طلعت الكسار رحمه الله، وكان يجلس في الصف الأول وقال لي بلهجة جادة تكاد تكون مخيفة: "إياك والضحك فإنه يميت القلب" فسألته عما يعني، قال إنك الآن تنتمي لجماعة جادة ولا بد أن تتسم بالرزانة والرصانة في كل سلوكك، فأنت مُراقب، وسكت. سألته عما يعني فقال إن الزملاء في جماعة الإخوان لاحظوا أنني أحب الضحك والتلاعب بالألفاظ وهذا لا يليق بعضو الجماعة وطلب مني الحضور بعد صلاة العصر إلى الشعبة".  

ذهب عناني إليهم فحدثوه عن تعليمات الشيخ الإمام بالجد والوقار، وأن ذلك أساس قهر الأعداء وضرورة استكمال التدريب العكسري، واستعمال الأسلحة وأن الكتائب هي عصب الإخوان، ثم في غضب تحدثوا عن هزله، يعلق عناني: "وجدتني أتصبب عرقا من فرط الحرج والدهشة، وكلما ههمت بالكلام أسكتني أحدهم ثم فجأة نهض الجميع.. كنت ذاهلًا غير مصدق، إدانة بغير دفاع، والأدهى من ذلك أنهم كانوا يتحدثون عن الموضوع دون علمي ويتخذون القرارات الملزمة لي خلف ظهري". 

نفر عناني من أسلوب الجماعة سريعًا وآثر الابتعاد عنهم وعدم الاجتماع بهم مرة أخرة، يقول: "ذهبت إلى زميل لي وقصصت عليه ما حدث  ففرح لنجاتي من براثن هؤلاء، وقال دون مبالاة "هل يظنون أنهم قادرون على التحكم في عباد الله؟ لا تأبه لهم".

في القاهرة: دروس من الأساتذة

حينما انتقل عناني رفقة أسرته إلى القاهرة والتحق بمدرسة الأورمان النموذجية، كانت عوالم جديدة تتفتح أمام ناظريه، هناك التقى بشغف جديد سيظل ملازمًا له فيما بعد؛ عزف العود. صدفة وبينما هو خارج من غرفة الأساتذة بمدرسته، استوقفته أنغام من غرفة الموسيقى المجاورة، وحينما ولج إليها رأى العود وقد غطته الأتربة وأُهمل عزفه، فأمسك به وبإرشاد من معلمه تعلّم مواضع السلم على الأوتار وقراءة النوتة وعكف على تعلمه حتى أتقن عزفه، يقول: "كنت مقبلا على العود إقبال من يرى فيه روحا جديدة". 

كانت المدرسة فرصة اقتنصها عناني لمزيد من التوغل في فهم الفنون المختلفة، وهناك التقى الفنان عبد المنعم مدبولي، الذي كان مدرسًا للتمثيل، يروي عناني ما دار بينهما بقوله: "نصحني عبد المنعم مدبولي بعد أن قرأ المسرحيتين اللتين كتبتهما بألا أحترف التمثيل، وقال لي إن موهبتك موهبة مؤلف لا ممثل، وإن علي أن ألتحق بقسم اللغة الإنجليزية "فأقرأ شكسبير والكلام دا"، ثم أكتب بعد التخرج"، وهو ما تحقق بالفعل وإن كان على نحو مغاير. 

كانت رغبة عناني هي دراسة الأدب العربي لكن أستاذه جرجس الرشيدي نصحه بدراسة الأدب الانجليزي، فيما أصر والده على أن يلتحق بكلية الشرطة، فتقدّم للالتحاق بها لكنه لم يُقبل، "رغم الواسطة العليا التي استعنا بها"، على حد تعبيره، ومن ثم بدأت رحلته مع الأدب الإنجليزي بالجامعة ثم في دراسته بلندن، وهي رحلة أثبت فيها تفوقه وجدارته لجميع أساتذته.

 بين عبد الوهاب المسيري ولويس عوض

تتلمذ عناني في الجامعة على أيدي مجموعة من الأساتذة، من بينهم مجدي وهبة الذي كان يقيم مسابقات لأفضل ترجمة وكان عناني يستأثر غالبًا بالمركز الأول ما لفت انتباه معلمه إليه، فدعاه إلى نشر مجموعة" 24 قصيدة" بالاشتراك مع عبد الوهاب المسيري الذي ترجم مجموعة من القصائد لكنه رفض. 

يروي عناني الموقف قائلًا: "قلت إن الترجمة مثل التأليف لا تحتمل المشاركة، فقال لي بل أنت تريد الاستئثار بالمجد، فأنكرت وقلت مخلصًا إني أريد أن يُعرف صاحب الأسلوب من ترجمته". كان هذا الموقف هو بوابة العلاقة مع المفكر الكبير لويس عوض، إذ نصحه أستاذه عقب هذا الحوار أن يتصل به لأنه سيفيده في تكوين أسلوب خاص بالترجمة. 

يروي عناني في كتابه "الأدب والحياة" ما حدث لاحقًا قائلًا: "أدرتُ قُرص التليفون بيدٍ هيَّابة، وجاءني صوت الدكتور لويس هادئًا وهو يُحدد لي يوم الأحد التالي، وذهبتُ إليه أحمل كَراستَين مكتظَّتين بقصائدَ رومانسية مترجَمة عن الإنجليزية، وجلستُ على الفور أقرأ له أحدَ النصوص وهو يُتابعني في صمت، وكان يتوقف أحيانًا ليسألَني هل هذه الكلمة العربية قديمةٌ أم مُحدَثة؟ هل وافقَ عليها المجمَع؟ ولم نَدْر بالوقت إلا حين طرَق البابَ طارقٌ يُعلن للدكتور لويس وصولَ زائر، وتنبَّهتُ إلى الساعة فإذا نحن تجاوزنا الحاديةَ عشرة ليلًا، وأردتُ الاستئذان فغضب وقال فلينتظر الزائر حتى ننتهيَ نحن، وفعلًا جلس الزائر يستمعُ حتى انتهينا وخرجت". 

من هنا بدأت علاقته بلويس عوض، التي قال عنها عناني في سيرته: "عندما زرته أحسست بأن مسار حياتي قد تحول إلى الأبد". كان التحول المذكور ناتجًا عما أتاحته زيارات عناني للكاتب الكبير من مناقشات ثرية ولقاءات بكبار الأدباء.

 ذكر عناني عن عوض حدته وصراحته في مناقشاته راويًا أحد المواقف التي دارت أمامه: "عندما قرأ له أحمد عبد المعطي حجازي قصيدة مطلعها: (إني هنا فوق الطريق يا حبيبي أنتظر، الناس مروا من هنا، مروا ذراعا في ذراع، مروا كلاما هامسا وبسمة بلا انقطاع)، قال لويس: أيوه كويس بس عاملة زي كل الأحبة اتنين اتنين، وأنت يا قلبي حبيبك فين، فضحك الموجودون".

كتابه الأول في التأليف

ذكر عناني أنه كان فرحًا بصدور كتابه الأول في التأليف في فبراير 1963 وهو كتاب "النقد التحليلي"، فقال: "كنت سعيدا به على صغره وتواضعه بل على مبالغاته وشطحاته ونبرته العالية، فقد كنت آنذاك مؤمنا بالفن إيمانًا يصل إلى حد التقديس"، وهو الكتاب الذي يوضح رأيه في الفن وفي مهمة الناقد، فيشير إلى ما أثاره الكتاب من جدل على صغره بسبب سيادة النقد الأيدولوجي وتحكمه آنذاك، يقول عناني: "كنت أرى أن مهمة الناقد الأولى ودون جدال هي نقد فن الفنان بمعنى تحليل عناصره ودراسة مبناه والغوص في دلالاته لا استنباط هدف أخلاقي أو اجتماعي أو سياسي منه ولم أكن على استعداد مطلقًا أن أقبل مسخ عمل فني مهما تكن رسالته الظاهرة أو الباطنة بأن أساويه في الكم أو في الكيف مع هذه الرسالة".