رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

متعة الحياة فى «شرنقة يوسف شاهين»

أن تلتقى يوسف شاهين، مصادفة أو بترتيب، تلك قصة يمكن أن تظل لسنوات تحكى عنها لأقاربك ومعارفك ورفاقك، وتفاخرهم بها.. وأن تعمل معه، ولو كممثل فى مشهد واحد، فتلك حكاية قد يطول شرحها، والحديث عنها، وهى الحكاية التى كانت لسنوات طويلة حلم كل من ضربته غواية السينما، أو أصابته حرفة التمثيل.. أما أن تقترب منه، وتلازمه لسنوات وسنوات، وتكون يده التى يستند عليها، ويرسم بها مراحل تنفيذ أربعة من أهم أفلامه، فتلك مادة الكتاب الممتع «شرنقة شاهين» الذى قضيت بصحبته أمسية من أجمل الأمسيات التى يصعب تكرارها فى زمن كتب السحر والشعوذة، وخرافات التنمية البشرية، وقصص الرعب، وروايات «التيك أواى».

و«شرنقة شاهين» هو أول إصدارات دار «أطياف» للنشر والتوزيع، التى تشرف عليها الصديقة المبدعة صفاء النجار، وتروى فيه المخرجة العراقية الكبيرة خيرية المنصور تفاصيل رحلتها مع «جو» منذ بداية تعرفها عليه فى العراق، مرورًا بجميع مراحل عملها معه كمساعد مخرج لفيلم «حدوتة مصرية»، ووصولًا إلى لحظة فقدانها الرغبة فى البحث عن الصديقة التى جاءت إلى القاهرة بحثًا عنها، لمجرد أنها طلبت منها أن تمزق «شرنقة شاهين» التى يبدو أنها ما زالت تحيا متعة الحياة بداخلها، لا تريد تمزيقها، ولا الخروج منها.

كان للمخرجة العراقية الكبيرة فى بداياتها حظ القرب من كبار السينما المصرية الذين عملت معهم كمساعد للإخراج، توفيق صالح، صلاح أبوسيف، محمد راضى، يوسف شاهين، من بين هؤلاء كانت رحلتها مع «جو» هى الأكثر قربًا إلى قلبها كما يبدو من كل كلمة كتبتها فيما يزيد على المائتى صفحة من القطع المتوسط، هى حجم كتابها الممتع «شرنقة شاهين»، وكما تبدو واضحة وصريحة ومباشرة من التصدير الذى سبقت به تفاصيل رحلة عملها معه فى فيلم «حدوتة مصرية»، فهى تبدأ كتابها بواقعة واضحة الدلالة شديدة الأهمية لمن يريد أن يفهم طبيعة العلاقة بينها وبين «جو».

تبدأ خيرية المنصور الكتاب بقصة لقائها بالمخرجة إيناس الدغيدى، على هامش مهرجان القاهرة السينمائى، فى إحدى الدورات التالية لرحلة عملها مع «جو»، وتقول: 

«سألتنى: ماذا تعملين الآن؟ 

- مع «جو» فى أفلام مصر العالمية.. أنتظر فرصة لعله ينتج لى.

فاتسعت حدقتا عينيها وردت علىَّ بعصبية: أحب أن أقول لك إن يوسف لن ينتج لك، ولا لغيرك، إذا لم تحصلى على تمويل لفيلمك، وكل الذين عملوا معه جلبوا تمويلًا لأفلامهم ومزقوا شرنقة شاهين.. خوخة أنت مخرجة ولديك فيلمان روائيان، غير الأفلام التسجيلية، وحصدت جوائز عدة، مزقى شرنقة شاهين وانطلقى.. كفاية عملتِ معه أربعة أفلام، انطلقى وتعرفى على السينمائيين حتى يعرفوك.. ساد بيننا صمت لفترة، فسألتنى: غريبة.. لماذا أنت ساكتة لا تردى؟ ابتسمت على مضض، وقلت: يا إيناس حتى رضوان الكاشف قال لى نفس كلامك، ولكنه كان أقسى منك.

تركتنى متخبطة مع أفكارى، حتى الصديقة التى جئت أبحث عنها لم تبق لدىّ رغبة البحث عنها، خرجت وسرت على كوبرى الجلاء، نسمات النيل العذبة تداعب خصلات شعرى، يدى تلملم الشعيرات المتناثرة، أقف لآخذ شهيقًا عميقًا لأعيد التوازن لنفسى وأفكارى.. وجدت نفسى على شاطئ النيل، أتهالك على الكرسى الخشبى أفكر فى كلام أصدقائى، أمزق شرنقة شاهين؟ كيف وهى شرنقة من حرير الصدق والمعرفة؟».

لا يحتاج الأمر أكثر من تأمل بعض المفردات هنا لندرك مدى تشبث خيرية المنصور بتلك الشرنقة التى أنضجتها، وعاشت بداخلها أهم وأجمل سنوات عمرها، ففتحت لها الباب واسعًا إلى دنيا الفن السابع، وعرّفتها على أبجديات صناعة السينما، وتقنياتها، بصورة أفضل مما كانت تحب وتتمنى، هى الشرنقة التى طالما حلمت بها منذ لحظة تخرجها فى أكاديمية الفنون الجميلة فى بغداد، وحتى لحظة رؤيتها له خلال عملها كمساعد للمخرج توفيق صالح أثناء تصوير فيلم «الأيام الطويلة»، والتفاته إليها قائلًا: تشتغلى معايا؟ فردت من فورها: «أتوسل إليك.. ياريت».

تقول خيرية المنصور فى المشهد الثالث من كتابها: «غادر شاهين العراق، وأحلامى وآمالى باتت مؤجلة منتظرة كلمة منه.. مضى شهر وأنا يوميًا أصعد للطابق السابع، أسأل السكرتيرة: «هل جاء تلكس من يوسف شاهين؟» حتى إن الفتاة كانت حينما ترانى تشير لى «لا شىء»، وفى يوم ما قيل لى إن المدير العام لمؤسسة السينما والمسرح طلبنى للحضور إلى مكتبه.

جلست أمامه وهو يقلب أوراقًا أمامه، فسألنى: هل تذهبين إلى القاهرة؟

- أشرت بنعم وأنا خائفة، هل أرسل يوسف شاهين فى طلبى؟ مليون هاجس قطع علىّ مليون سؤال فى لحظة.

- نعم.

أى مشاعر تلك التى انتابتنى فى تلك اللحظة، قفزت من مكانى وأنا أصيح بأعلى صوتى: «لقد فعلها»، بدأت أدور فى الغرفة، فقدت صوابى، وبدأ يضحك على، فخرجت من غرفته راكضة، كيف نزلت الأربعة طوابق إلى الثالث ودخلت غرفة مدير السينما؟ لا أعرف.

طالت رحلة خيرية المنصور بالقرب من يوسف شاهين لسنوات وسنوات، تعرفت خلالها على طريقة عمله، ومراحل تفكيره فى شريط سينمائى يحمل توقيعه، فشهدت مراحل نموها، منذ بداية الفكرة، وحتى لحظة الوصول إلى قاعة العرض، فرصدتها بدقة وأمانة، من جداول التصوير، وكشوف التحضير، وحتى أنواع العدسات المستخدمة لتصوير كل مشهد، وطريقة إضاءته، وتحديده زمن كل لقطة، ولعله من المناسب أن أقول إن جزءًا كبيرًا من أهمية هذا الكتاب يكمن فى تركيزه على فيلم واحد من بين أربعة أفلام عملت فيها معه، هو فيلم «حدوتة مصرية»، ووصفها الدقيق كل خطوات العمل فى الفيلم، بداية من مراحل تطوير السيناريو، وصولًا إلى مشاداته مع رشيدة عبدالسلام، وحتى صناعة الأفيش، ما يجعل من «شرنقة شاهين» بمثابة درس لكل من يريد الاقتراب من سينما «جو»، وفهمها، والاستمتاع بها.. 

رحلة ممتعة.