رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البحث عن مرآة

أعرف العديد من المدن، الكثير من المدن حلمت بأن أسكنها وأن أعيش فيها.. مع كل لقاء تعارف، مع كل وعد بزواج، مع كل خطوبة، كان مقررًا لى أن أسكن فى مدينة مختلفة، سكنتنى مدن كثيرة، أبحث عنها فى الخرائط على جوجل، أحفظ أسماء شوارعها، ميادينها، أعرف مناخها، درجات الحرارة فيها صيفًا أو شتاءً، اشتريت ملابسها.. مدن أصابتنى بالدهشة ومدن أصابتنى بالخيبة.. من أجل نيويورك، عرفت أسماء أحيائها الستة، قرأت عشرات الكتب..، ..، حاولت أن أتغلب على برودة أطرافى، اشتريت الكثير من الشرابات الصوف، عليك أن تهتم بأطرافك، لأنه ويبدو وكما هو الحال مع الأوطان والبلاد فأطراف الإنسان فى العالم الجليدى هى نقطة ضعفه التى يمكن للبرودة أن تهاجمك منها، الحدود، كل ما له تماس مع ما تخشى وما تحمى نفسك منه، عليك التعامل معه بحذر شديد، ودون استهانة، لا تسمح للتسريبات، للأنفاق، لا تسمح بالخذلان أن يمس قدميك، لا يكفى شراب صوفى واحد فليكن اثنين، ثلاثة، كلما كانت أطرافك حصينة فشل البرد أن يغزوك.

أعلم أنه سيتاح لى وقت كى أشترى كل ما أحتاج لكنى اشتريتها كى أكون مستعدة، من أجل طوخ اشتريت عشرات الهدايا الصغيرة لفتيات ونساء تعهدت أن أعلمهن القراءة والكتابة، وأخريات تعهدت بأن أعلمهن إعطاء الحقن، من أجل لندن.. استسغت السمك المقلى مع البطاطس. 

استجمعت روائح المدن، روائح اليود والتراب والعوادم وزهر الليمون، لكنى لم أسكن أى مدينة، ولم أغادر فى حياتى منطقة المنيل، المدن تتغير أسرع مما يتغير أهلها، أدركت كم تغيرت مدينتى، بل كم تغير العالم عندما رأيت فرعًا لمحلات التوحيد والنور فى شارع القلعة.. بعدها بسنوات قليلة شاهدت ما لم أتصوره أبدًا، فرع للتوحيد والنور فى قلب المهندسين.. فى شارع البطل أحمد عبدالعزيز، هو نفسه بتصميمه الشعبى الرخيص وأدواره الخمسة، بعماله القرويين وقمصانهم الرمادية مع البنطلونات الزرقاء.. وصنادلهم الصيفية، وزبيبة الصلاة.. مستعمرة للعبيد القادمين من الدلتا، يوفر لهم صاحب المحل النوم فى أماكن مجمعة، ويسافرون لذويهم كل أسبوع، يظل محلًا شعبيًا نخشى شبهة الوقوف أمامه، كيف يستطيع السرطان أن ينتشر بهذه السرعة فى الجسد؟ لن يصبح محلًا راقيًا مهما فتح له أفرعًا فى المعادى أو مصر الجديدة، سيظل بهرجة رخيصة مثل وردة حمراء تضعها شابة قروية على فستان سواريه.

أتعلم كيف أتعامل مع إرهاقى، يمكننى أن أتصالح مع جسدى ولا أعتبرها خيانة، أعتبره تحذير نذير، وعلىّ أن أستفيد من هذا الألم البسيط وأتعامل معه ولا أتركه يتراكم بتجاهلى له.. التجاهل، اللا مبالاة، النسيان، الظلام الذى ننزلق فيه، لكن فى كل الأحوال علينا أن نحمل مشعلنا وننتبه لكل علامة وإشارة.

أريد أن أقوم بدور إيجابى، أحتاج أن أحسن صورتى، أنا على استعداد لبذل أى جهد نفسى وبدنى من أجل أن يرانى أحد، من أجل أن يقدرنى أحد، من أجل أن يتمنى أحد أن يكون مثلى، أن يتمنى أن تكون ابنته، زوجته، حبيبته مثلى.. من أجل أن يشعر بى شخص ليس قريبًا منى.. فيما مضى كنت أقوم بهذا الجهد وأفعل كل ما يطلبه منى الآخرون وأحاول دائمًا إرضاءهم دون أن أدرك لماذا أفعل ذلك.. الآن أنا أعرف، أتمنى أن يحبنى ويتمنانى أحد.. أبحث طوال الوقت عن مرآة ترانى. 

أدركت هذا الاحتياج.. كنا نجلس فى فندق «طابا ستراند»، تجمعت غربان أخذت تطوف قريبًا منا، أخذت قطعة خبز، وبدأت فى تفتيتها على منضدة خالية، أخذت الغربان تتجمع وتلتقط الخبز المفتت، حتى الغربان يمكننى أن أطعمها، أخذ العاملون فى المطعم يصرخون فى الغربان كى تبعد، وقالوا إننى لو شجعتها فسوف تهاجمنا شخصيًا، ولن تكتفى بالطعام، هززت رأسى، لا شىء تبقى لأثبته، ولم يتبقَّ إلا القليل لأخسره، فما عدتُّ أتحلى بروح المجادلة تجاه أى شىء، فقط صرت أقل خوفًا، ولا أفعل شيئًا عندما يكون الصمت أكثر أمانًا.