رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وحين يأتى اليوم

 تبقى الشهرة واحدة من القضايا التي ينشغل بها كثير من الناس، وقليلون هم الذين يرون السلامة في اعتزال الناس أو الاختلاط بهم، ولكن غالبًا ما يستغرق المرء فترة طويلة مجهدًا نفسه في البحث عن حدث يفجره ليحقق حلم الشهرة التي يعتقد أنها تجلب في معيتها الراحة والثراء.
كنا قديمًا نقرأ عن شخصيات تدفع أو تتنازل أو تضحي بعزيز أو معتقد أو حتى بشرفها لتحقق قدرًا من الشهرة. وكم من النجوم الذين تابعنا مسيرتهم وعانوا من أعراض وتبعات جنون الشهرة فضحّوا بملذات الحياة من مأكل أو زيجة أو ولد، وحين مضى بهم قطار العمر وأرادوا التراجع عن مواقفهم ندمًا على ما فاتهم اكتشفوا أن ندمهم جاء متأخرًا جدًا، حيث الوقت الذي لا يفيد معه الندم ولا ينفع عنده التراجع.
الأمر يمتد لينطبق على فئات مجتمعية ومهنية كثيرة كبعض لاعبي الكرة أو الفنانين أو الإعلاميين، ولكن المأساة الأكبر أن وسائل التواصل جعلت الشهرة حقًا مشروعًا للجميع، حتى إن بعضهم أصبح لا يتورع عن تصوير أهل بيته أو غرفة نومه أو أدق خصوصيات حياته، لا لشيء إلا طمعًا في التريند.
فصرنا نرى ما لا يجوز أن نراه ونتابع ما لا ينبغي أن نتابعه ونشغل أنفسنا بما لا يجب أن يشغلنا.
والكارثة الحقيقية حين تأتي الشهرة دون سابق إنذار، ودون امتلاك المرء المؤهلات النفسية التي تتيح له سرعة التكيف مع تبعاتها من اتزان عقلي، ومنذ أصبح التريند هو الهم الأكبر لكثير من الناس أصبنا بصدمات في كثير ممن كانوا بيننا أسوياء أصحاء عقليًا- أو هكذا كنا نحسبهم - فإذا بهم على أتم الاستعداد للتضحية بكل شيء في سبيل تحقيق شهرة تمنوها وعملوا لأجلها، فضاعت حياتهم بسببها وكم شاهدنا مؤخرًا ولا نزال نرى نماذج بشرية تؤكد ما نقول.
ومن بين ما يشغل كثير من بني آدم به أنفسهم، ما يقوله الناس عنهم فقد صارت وسائل التواصل منصة متاحة لبث السموم البشرية والتنفيس عن الأحقاد، وقد يرى البعض بوجوب انشغال المرء بنفسه دون الاعتداد بآراء الآخرين فيه ولكن هيهات وقد صرنا لا نحيا فرادى أو بمعزل عن البشر فكتابات الناس عنا تصل إلينا ونحن في غرف نومنا.
بل إنني أرى أن على الإنسان أن يهتم بما يراه الناس فيه، فقد ورد في الأثر أن "ألسنة الخلق، أقلام الحق". كما صح حديث شريف عن الرسول الكريم يقول فيما رواه ابن ماجة: "أهل الجنة من ملأ الله تعالى أذنيه من ثناء الناس خيرًا وهو يسمع, وأهل النار من ملأ الله تعالى أذنيه من ثناء الناس شرًا وهو يسمع".
وقال في ذات السياق: "يوشك أن تعرفوا أهل الجنة من أهل النار، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: بالثناء الحسن والثناء السيئ أنتم شهداء بعضكم على بعض" وهذا ما صار واضحًا بجلاء منذ انتشرت بيننا وسائل التواصل بهذا القدر المزعج و الرهيب.
ومؤخرًا توفيت بعض الشخصيات العامة فتابعت ما كتبه الناس عنهم على السوشيال ميديا فإذا بهم يثنون على بعضهم ويدعون لهم بصالح الدعاء، وعلى النقيض تمامًا كانت هناك بعض الشخصيات التي لم يرحم الناس ضعفها - بعد موتها - ولم يراعوا عدم مقدرتهم على رد الإساءة أو مجرد الدفاع عن أنفسهم، فأوسعوهم سبًا وقذفًا وكالوا لهم اللعنات لا الطعنات، في وقت كانوا فيه في أمّس الحاجة للدعاء بالمغفرة.
ورغم شديد اعتراضي على أن تنهش الألسنة من صار عاجزًا عن المواجهة، إلا أنني تذكرت حديثًا رواه البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: "مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (وجبت) ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرًا، فقال (وجبت) فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ فقال الرسول: هذا أثنيتم عليه خيرًا، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًا، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض".
أذكر أن أحدهم مات فتذكرنا سيئاته وما فعله بنا، فتطوع أحدهم ليذكّرنا بالحديث المنسوب للرسول صلى الله عليه وسلم: "اذكروا محاسن موتاكم وكفُّوا عن مساويهم" فإذا بأحد الحضور يتطوع بالقول إنه حديث ضعيف، ثم ينطلق في انتقاد أفعال وتصرفات "المرحوم".
حاول بعضنا جادًا أن يجد للفقيد شيئا طيبًا يذكره به، فلم يجد إلا النذر اليسير الذي قد نعده عند آخرين أمرًا عاديًا لا يستحق الالتفات، وحين أعجزته ذاكرته شارك صاحبنا غيره في ذكر مساوئ الرجل الذي رحل وأفاض في سرد أفعاله السيئة معه ومع غيره .
خلاصة القول، الإنسان سيرة فكن آدميًا كما يليق بالبشر، وتذكر حين يأتي اليوم ماذا سيقول الناس عنك بل ماذا ستقول أنت لرب الناس حين يسألك ملائكة الحساب عن العير والقنطير، ضع في يقينك أنك مسئول عما صنعته بنفسك، وما خلّفته لولدك، وما بذلته في سبيل وطنك وتأمل كل حرف تخطه بيمينك على وسائل التواصل التي صارت أطول عمرًا من صاحب الحساب لتبقى شاهدة عليه إن كان سبّابا فاحشًا بذيئًا أو كان حليمًا وقورًا داعيًا للخير وناهيًا عن الشر.