رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نكبة ازدراء الإنسان

تواصلت معها أطمئن عليها، فقالت: «قوية، رغم إن إيدى مجروحة من الكلبشات. بس أنا تمام».

«إيدى مجروحة من الكلبشات». أن يتحول فعل التضييق والخنق إلى جروح وندوب مادية على الجلد، كان أكبر مما تحتمله الروح.. فليس أحد منا فى مأمن.. كلنا لدينا لحظات الألم، والإحباط والغضب، الذى نحوله إلى كلمات نسأل بها أنفسنا والمجتمع والله.. كلمات هى كل ما نملك، كى نعبر كما منحنا الله من أفكار وخيالات، ما نعبر به عن تصوراتنا عن أنفسنا والمجتمع وعلاقاته، وعن علاقتنا بالله وتصوراتنا عنه، فرغم إيماننا بأن الله ليس كمثله شىء، إلا أنه عندما أراد أن يعرفنا بذاته العلية عرّفها بأفعال وصفات وأسماء بشرية كى يتم تقريب المعنى لنا، فعندما يغضب أو يضحك أو يسمع أو يرى أو... فإن أفعال الله وصفاته ليست مثل أفعال وصفات أحد من خلقه، فهو سبحانه وله المثل الأعلى، وكل ما يوصف به يكون على وجه الكمال والجمال والجلال. 

والقرآن استخدم للإشارة إلى الله ضمير المذكر العاقل، وليس معنى ذلك أنه مذكر، فالله ليس مذكرًا أو مؤنثًا أو جمادًا، لكنه الله الذى خلقنا على صورة صفاته، فجعل من عباده من تغلب عليه صفات الرحمة والحكمة والود، المغفرة.. والذين يتحدثون عن عذاب الله ووعيده ومن يتحدثون عن رحمة الله ومغفرته، هم يتحدثون عن جزء من الصورة الكلية لله سبحانه وتعالى التى لا يستطيع أن يحيط بها شىء أو فكر أو خيال. والبحث فى صورة الله هو موضوع كبير شغل علماء الكلام والفلسفة والتصوف، وقد انقسموا إلى فريقين، أولًا: المجسِّمة الذين يأخذون القول فى الذات الإلهية على حرفيته، وبالتالى فالله سميع وبصير على الحقيقة. 

ثانيًا: المنزِّهة الذين يتحاشون نسب صفات مما تقدَّم إلى ذات الله، مرجِّحين معناها المجازى، ومستدلِّين بما ورد فى الآية الحادية عشرة من سورة الشورى: «ليس كمثله شىء». 

ومع كتابات محيى الدين بن عربى، ظهر الخيار البرزخِى الذى يقع فى منزلة وسطى بين الفريقين السَّالفين؛ ذلك أنه يحسب التَّشبيه والتَّنزيه طرفين لحقيقة واحدة هى الذَّات الإلهية. مستندين إلى التجانس الكلى بين الظاهر والباطن.

ومن يدرك تنوع الصورة الإلهية لن يندهش أو يكذب أذنه، كما ادعى من رمى الصديقة الشاعرة بتهمة ازدراء الله، فأن تعبّر المرأة المحبطة المهجورة المغبونة من المجتمع الذكورى عن تصورها عن الله بصفات وضعها سبحانه وتعالى فى المرأة، فتأنس لتعاطفه معها ولجمال قدرته وقوته الرحيمة، فما كتبته ليس إلا صورة من صور الله، ولله المثل الأعلى وهو سبحانه فى صيرورة دائمة «كل يوم هو فى شأن»، وقد يكون ما أغضب المدعى أنها تصورت الله فى صفات امرأة، ولم تصوره كما اعتاد هو ومن على شاكلته من الذكوريين أن يصوروا الله فى صورة رجل شديد البطش يجلس على قارعة الطريق لتأديب العابرين من البشر فى طريق الحياة، وما كان للنيابة العامة أن تستجيب لهذه الدعوى وتهدر وقتها وجهدها وتهين كرامة كاتبة وتضعها مع الخارجين على القانون؛ لو أن المناخ العام يسمح بالمناقشات والمجادلات الفكرية وتبادل الأفكار العميقة حول ذات الله وحقيقة الوجود الإنسانى، لكنها فترة الردة والنكبة حيث لا يريد أحد أن يفكر، بل هناك من لا يريد لنا أن نفكر أو نتدبر أو نُعمل العقل كما أمرنا الله سبحانه وتعالى؛ لأن التفكير سيؤدى إلى إلغاء كل الامتيازات التى تمتلكها سلطة التفسير.

علينا جميعًا كمثقفين أن نتضامن للمطالبة بإلغاء المادة ٩٨ من قانون العقوبات التى تنص على: «يُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ٦ أشهر ولا تجاوز ٥ سنوات أو بغرامة لا تقل عن ٥٠٠ جنيه ولا تجاوز ألف جنيه لكل من استغل الدين فى الترويج أو التحييذ بالقول أو بالكتابة أو بأى وسيلة أخرى لأفكار متطرفة بقصد إثارة الفتنة أو التحقير أو ازدراء أحد الأديان السماوية أو الطوائف المنتمية إليها أو الضرر بالوحدة الوطنية أو بالسلم الاجتماعى».

فهذه المادة عندما صدرت عام ١٩٨١، كان الغرض منها حماية الإخوة المسيحيين بعد توالى أحداث الفتنة الطائفية فى عهد الرئيس السادات. فإذا بها تصبح سيفًا مسلطًا على رقاب أصحاب الرأى والفكر تسمح لأى شخص أن يقدم بلاغات ودعوى كيدية، متهمًا أيًا منهم بازدراء أو تحقير أو إهانة الدين، فهو لا يضع مفاهيم واضحة للمصطلحات التى يذكرها، مثل «ازدراء وتحقير الدين» أو «الإضرار بالوحدة الوطنية».

والأهم أن نقوم بدورنا فى مواجهة طوفان الرؤية الأحادية للعالم والكون وتغييب العقل، وأن ننشر ثقافة التنوع والتعدد بمعناها الفلسفى العميق.. وأن نقف فى مواجهة ظواهر التفريغ والتسطيح التى تدهسنا جميعًا.