رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الحرب فى الشرق».. أن تكتب ليحيا العالم «٢»

يهدى الكاتب زين عبدالهادى روايته «الحرب فى الشرق» الصادرة حديثًا عن دار بتانة لأرواح عدد كبير ممن عاشوا عالم الرواية، ويخص الإهداء فى لفتة إنسانية شديدة الرهافة لأرواح الأطفال الذين رحلوا عن عالمنا بين حروب ١٩٦٧ و١٩٧٣، ويوضح لنا أن ضحايا تلك الحروب أطفال صغار وارى الثرى أجسادهم النحيلة فى صحراء وأراضى المحروسة، وأيضًا الأجنة الذين لم يكتمل نموهم الذين سقطوا من بطون أمهاتهم نتيجة التشريد والهجرة، ولم يعلم عنهم أحد بعد ذلك شيئًا، وهذا أقسى ما فى الحروب الذين يدفنون فى مكان غير معلوم، فلا شاهد لقبرهم يُزار وكأنهم كانوا نسيًا منسيًا، هذه التفاصيل الصغيرة يعرف مذاقها جيدًا من شاهد وعانى ويلات الحرب.

تتكون الرواية من ٢٧ مشهدًا، تتنوع عناوينها، فبعضها كلمات مثل: الرحلة، العصافير، البوابة، الهدية، الموت، وهى كلها مُعرفة، فهى رحلته وبوابته وكل ما يمت لعالم الرواية، وبعضها أسماء الأغنيات «قولوا لعين الشمس ماتحماشى»، وعناوين موسيقية «فالس حبيب الروح». 

كما يورد الكاتب عناوين دالة توحى بأسباب الهزيمة فى الحرب، ففى الفصل الذى يحمل عنوان «مايو ٦٧»، حيث يخرج الأب من المعتقل لأنه ضرب مدير الشركة الذى خالف تعليمات عبدالناصر وأهان واحدًا من العمال، وأنه ضرب بكل ما قال عبدالناصر عرض الحائط «ارفع رأسك يا أخى»، اعتقل الأب لأنه آمن بما يقوله آباؤه. 

وفى «حكايات عم أحمد»، تستدعى ذكرى الذين قاتلوا واستشهدوا فى الحرب، وكأن تذكرهم والحكى عنهم هو شهادتهم الحقيقية وبقاؤهم الأزلى، فالحكاية لا تموت والسيرة أطول من العمر. 

وفى مهارة وحرفية يربط الكاتب الأحداث الواقعية بالمتخيلة بالتاريخية مثل هبوط الإنسان على سطح القمر.. ٢٠ يوليو ١٩٦٩ فى تمام الساعة ١٠:٥٦ بتوقيت الولايات المتحدة خطوة صغيرة لإنسان لكنها عظيمة للإنسانية، «قدم فى القمر.. قدم خارج بورسعيد»، حيث يهبط الإنسان على سطح القمر فتتبدد الصورة الشاعرية للقمر ويضيع جماله الذى طالما تغزل فيه الشعراء؛ ليصبح مجرد كويكب لا ينير من تلقاء ذاته، بل مجرد مرآة ضخمة يعكس أشعة الشمس، على سطح القمر وجد الإنسان عشرات القمم الجبلية والصحارى والتجاويف الصخرية، يضيع حلم التغنى بالقمر، وبعد زيارة بورسعيد التى عدها الراوى مكافأة النجاح، يرصد كم الدمار الذى حل بالمدينة، البيوت المهدمة، المحلات المخربة، الفئران التى تنتشر وتسود فى المدينة. 

تتداخل هذه الواقعية مع الخيال السحرى للراوى، فيروى لنا عن رفيقيه اللذين يصحبانه فى كل مكان كشاهدين عليه، وكأنه يؤكد لنا صدق روايته مع وجود هذين الشاهدين اللذين قد يحلان إلى الملكين رقيب وعتيد، أو إلى فكرة القرين «يا وله إنت مش هاتبطل التهيؤات دى؟

- والله العظيم يا ستى واقفين أهم.

ابتسمت فى سعادة رأيتها فى عينيها الكبيرتين رغم جسدها الضئيل، رفعت أصابعها المحنية من أثر العمل على ماكينة الخياطة لساعات طويلة ومن الروماتيزم والتهاب المفاصل، الذى كان يكوى نصف سكان هذه المدينة ووضعتها فوق رأسى وأخذت تقرأ آية الكرسى فى تمتمة أشعر معها بالاطمئنان». 

تتماس الحكايات المنثورة عبر صفحات الرواية من جوانب عديدة خفية من ذكريات الطفولة لدينا، فمن منا لم يكره أكلة معينة وأجبر على أن يتناولها، ومن لم يتمن الخلاص من فستان أو بنطلون أو بدلة سببت له حرجًا لقِدَمها، أو لونها الغريب، أو تفصيلتها، ولأن الرواية تعتمد على فكرة الترحال والرحيل، فقد جاء الحذاء الأول للطفل ليكون معضلته الوجودية التى لا حل لها «حذائى القديم الذى عانى معى عامين، أسود ضخم يُشبه الأحذية العسكرية بلغ ثمنه تسعة وتسعين قرشًا، عاش ملازمًا لقدمى أربع سنوات من الرابع الابتدائى حتى دخلت الصف الثانى الإعدادى، كان نموى قد توقف عند الحد الذى تركته فى بورسعيد».

«لا أنسى كيف كانت حالته فى إجازة الصف الثانى الإعدادى حين قررت التخلص منه، ألقيت به فى نار أحد الشوارع فى الشتاء ووقفت أتطلع إليه وهو يحترق، كانت أقوى رغبة عشتها فى حياتى، لم يكن لدىّ أى رغبة أخرى فى الحياة سوى أن أتخلص من حذائى». 

رواية «الحرب فى الشرق» للكاتب الدكتور زين عبدالهادى واحدة من الروايات التى كلما تأملت فى بنائها السردى، وأزمنتها وواقعها وخيالها، منحتك فيوضًا من الإبداع والحنين، فتحية لكاتب الرواية ومحبة للذين مروا بأقسى تجارب الحياة ونجت أرواحهم من دمار الحرب.