رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحوار الوطنى والعقل الفلسفى

"سيزدادون عتوًا، وستزداد الكثرة لهم عداءً وكرهًا، ولن يستمر البسطاء بعيدًا عن المعركة، وإنما سينتصرون لمن حاولوا أن يجعلوا حياتهم أجمل وأكثر بهجة وإشراقًا، وضد كل من يهوى الظلام ويسعى للإظلام، سيصرخون ضد الغناء، وسيُغنى الشعب، سيصرخون ضد الموسيقى، وسيطرب لها الشعب، سيصرخون ضد التمثيل وسيحرص على مشاهدته الشعب، سيصرخون ضد الفكر والمفكرين، وسيقرأ لهم الشعب، سيصرخون ضد العلم الحديث، وسيتعلمه أبناء الشعب، سيصرخون ويصرخون، وسيملأون الدنيا صراخًا. وسترتفع أصوات مكبرات صوتهم وستتضاعف، وستنفجر قنابلهم، وتفرقع رصاصاتهم، وسوف يكونون فى النهاية ضحايا كل ما يفعلون، وسوف يدفعون الثمن غاليًا حين يحتقرهم الجميع، ويرفضهم الجميع، ويطاردهم الجميع.
أيها الصارخون، واإسلاماه واإسلاماه، وفروا صراخكم، فالإسلام بخير والخطر كله على الإسلام إنما يأتى منكم حين تدفعون بشباب غض فى سن الصبا، إلى ترك الجامعة لأن علومها الحديثة علمانية وتحشون رءوسهم بخرافات أهونها أن الرعد صراط شيطان عظيم وأن المرأة باب الشر وأن المجتمع كله جاهلى.
والله وحده يعلم أنكم أجهل أهل الإسلام بالإسلام، فالإسلام كان ولا يزال وسيظل "دين العقل".
تلك الفقرة غيض من فيض كتابات المفكر العظيم "د. فرج فودة" الذي نعيش بكل تقدير وأسى الذكرى الثلاثين لاغتياله في مثل هذا الأسبوع (9 يونيو) نتذكر الكثير من أفكاره وأطروحاته وما تنبأ به من تطورات لحالة المد السياسي والاقتصادي لجماعات أهل الشر وأنهم سيصعدون لكراسي الحكم وغيرها من التشوفات المستقبلية الفكرية وعشناها بالفعل على أرض الواقع بعد رحيله.
لاشك أن التفكير العلني بات ضرورة وحقا لنا من ضرورات وجودنا ذاته ونحن بصدد إقامة حوار وطني ويكون من المسموح، بل من حقنا أن نختلف ولا يقتصر اختلافنا على الأفكار والقناعات حتى تتكون تآلفات فكرية وسياسية وطنية، فيكون الاختلاف في التأييد والمعارضة، في الولاء والعداء في التواصل والتقاطع في الانجذاب والنفور والاقتراب الطيب والتباعد الاضطراري وهكذا من الأمور المُجازة.
وعليه تبرز أهمية فكرة التعددية التي تعني التنوع والاقتراب على المستوى العقلي والإنساني والحضاري ونحن نتعامل مع واقع الاختلاف عقلانيًا وإنسانيًا وحضاريًا كي لا يتحول الاختلاف إلى احتراب على مستوى الوجود الوطني فتتشكل الفرق المتنازعة التي إذا ما صُعِّدت وتيرة الصراع بينها إلى أكثر مما تتحمله الأوضاع، تنقلنا حالة الاحتراب إلى تكريس للبغضاء، وسماح لروح الشر والعدوانية لتتفشى، وإفساد للحرث والنسل وهدم للبناء الحضاري.
لذا جاءت رسالات السماء لتوصي وتحرض بل تلزم المؤمنين بها على الاعتدال والتآخي، وجاءت الدعوات الإنسانية لتجذر هذه المفاهيم وتدعو إليها وفق رؤى ونظريات إعمال العقل لتؤكد هذا المعنى.
وهنا نكرر السؤال، ألم يقرأ أهل الكسل العقلي في كتب تاريخ البشر أن تعثر الخطوات في دنيا السعي إلى كسب مساحات جديدة مبشرة بحال أفضل سيؤدي بهم إلى حالة تراجع الأحلام المحفزة لتحقيق طفرات وإنجازات نحو التقدم ومن ثم يزداد التخلف وتنتشر جراثيمه وميكروباته في أوصال أوطانهم.
وبالمناسبة تجدر الإشارة إلى أن الإرهاصات الأولية التي تحققت لتفعيل استضاءات التنوير في مصر وبعض المناطق العربية  في القرن التاسع عشر لم تنم كتيارات ومسارات للأمام، وعليه  تراجعت العقلانية والحداثة اللتان ارتبطتا بتلك الإرهاصات أمام زحف التخلف الفكري والجمود المتعصب ولم تقدر إرهاصات التنوير على مقاومة القوى صاحبة المصلحة في إطفاء نور العقل على عكس ما تحقق في عصر التنوير الأوروبي.
نعم فحالة الذهاب إلى إعمال العقل لدينا كانت "بعافية شوية أو قل شويتين"، بينما استطاع الفرنجة العبور إلى مجتمعات التقدم عبر الاستفادة بثورة الاتصالات واتساع فضاءات دنيا المعرفة والإبداع.
معلوم لن يتم تحقيق أي تقدم لمجتمع ما في هذا العصر إلا حين يشرق نور العقل في سماواته وآفاق تطلعات بنيه.
وفي هذا السياق أوافق العالم د. أحمد شوقي، في دعوته إلى السعي لإنجاز خطاب تنويرى جديد يبعث الحيوية والحداثة فى ثقافتنا التقليدية كلها، وليس فى مكونها الدينى فقط، الذى ندعو إلى تجديده منذ أمد بعيد دون نتائج محسوسة ودون إغضاب المعنيين بقضية التنوير بصدق وإخلاص.
يكرر د. شوقي الدعوة إلى أن نراجع معًا أسباب القصور فى تنوير المجتمع، والاعتراف بالحاجة إلى تغيير جذرى لمحتوى خطابنا التنويرى وأساليب تقديمه، والسعى إلى توفير البيئة الثقافية والفكرية السامحة باستيعابه وتبنيه، إنه نقد ذاتى تستدعى الأمانة طرحه بصورة مباشرة، توضح المشكلة وتسعى إلى الحل.
وعليه أرى أن على من يرومون الذهاب إلى خطاب تنويري متفاعل وواقعي أن يسعوا إلى بناء منظومة أخلاقية منفتحة تقوم على قيم الحرية والعقلانية والمساواة بين الناس على اختلافهم فى أشياء كثيرة وبلورة رؤية تثق أكثر بالإنسان ولا ترضخ للتصورات والعطاءات الفقهية الجامدة والمغلقة والتأويلات القانطة والمزعزعة حيال الإنسان وتعترف بوجود أطروحات أخلاقية غير دينية تنبع من الموروث الإنساني التقليدي وما حفلت به صفحات الحضارة الإنسانية والبناء على ما جاء في  مختلف الفلسفات والتأملات والآداب والفنون.