رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مفتى الديار المصرية يحتفى بصدور أول ترجمة لـ«الإلياذة»

سليمان البستاني
سليمان البستاني

تنطلق خلال ساعات، بالمجلس الأعلى للثقافة، أعمال مؤتمر "عشرينيات القرن العشرين: علامات فارقة وإنجازات مضيئة"، حيث يسلط المؤتمر الضوء على النهضة الفكرية والثقافية التي شهدتها مصر خلال عشرينيات القرن الماضي.

ومن ملامح هذه النهضة الثقافية والفكرية التي شهدتها مصر خلال العشرينيات من القرن المنصرم، الاحتفال بصدور أول ترجمة من اليونانية إلى العربية لملحمة «الإلياذة»، والتي قدمها سليمان البستاني. 

وفي كتابه «هوامش على دفتر التنوير»، يذكر مؤلفه الناقد الدكتور جابر عصفور، أنه وفي العام 1904 صدرت ترجمة سليمان البستاني (1856 ــ 1925) لإلياذة هوميروس عن اليونانية، وكان صدور الترجمة حدثا في الحياة الثقافية العربية في ذلك الزمان، فلأول مرة يقوم عربي بتقديم ترجمة كاملة، نظما، لإحدى الملاحم الأوروبية الأساسية، ولا يكتفي بالترجمة المنظومة، وما صحبها من جهد مضن في تطويع اللغة العربية لتأدية المعاني الأسطورية والمجازات اليونانية بل يقدم للترجمة بدراسة رائدة فريدة عن هوميروس وشعره، ودراسة مقارنة بين آداب العرب واليونان. 

وأذ يتحرك سليمان البستاني منطلقًا من الشعور بأهمية عمله، في هذه الدراسة بوصفه وسيطًا يصل قراءة العرب بالثقافة الإنسانية التي ينتمون إليها، والتي لا بد أن تضيف إلي وعيهم ما يزيده ثراءا فرنه لا يتحرك من فخر جاهل، أو نزعة عرقية ضيقة، و بل يتحدث عن هذا التراث ومن حيث هو الأصل الذي لا يتناقض مع الشعور بالانتماء إلى الإنسانية، والأصل الذي يقبل النماء بالحوار مع الآخر، والذي لم يكف عن هذا الحوار إلا في عصور تخلفه.

ويلفت «عصفور» إلى: لم يؤرق سليمان البستاني نفسه بالأساطير الوثنية التي انطوت عليها الإلياذة ولم يخطر على باله أن بعض الجهال يمكن أن يتهمه بالكفر؛ لأنه نقل خرافات الوثنية، أو ترجم أساطيرها، بل على العكس يشعر قارئ سليمان البستاني أن تقديره لأهمية عمله لا يقل عن تقديره لقارئه الذي يتوجه إليه بهذا العمل.

 لقد كان البستاني يعرف أنه يسهم في تأسيس نهضة ثقافية، ويعرف أن قرائه يتطلعون إلى هذه النهضة ويباركونها، وبقدر ما كان الكتاب والقراء يشتركون في حلم واحد هو استعادة الحضارة العربية لعافيتها التي أسهمت بها في التاريخ الإنساني، فأنهم كانوا يدركون هذا الإسهام المتوقع لا يمكن أن يتحقق إلا بالتنوير. 

وأول خطوة للتنوير هي أن يستبدل العقل بالنقل، والحرية بالجبر، والعدل بالظلم، والحوار بالإملاء، والانفتاح بالعزلة، الإنساني بالعرقي، ووضع ماضي الأنا في موضعه الطبيعي بوصفه حلقة من حلقات تتميم النوع الإنساني، ولم يكن يخامر واحد من هؤلاء شك في أن النهضة الأدبية لا تنفصل عن النهضة الفكرية، وإن هذه وتلك لا يمكن أن تتحقق إلا بحرية الفكر، والخروج من ظلامة النقل إلي استنارة العقل، وإعادة فتح باب الاجتهاد، وتحرير العقل الإنساني من كل ما يكبله من قيود التقليد، وأن الحرية كالعدل أساس العمران، وذلك منذ أن نادى رفاعة الطهطاوي بأن «الحرية منطبعة في قلب الإنسان من أصل الفطرة». 

احتفاء الوسط الثقافي المصري والعربي بصدور ترجمة سليمان البستاني

لم يكن من قبيل المصادفة أن تحتفي الحياة الثقافية كلها بصدور ترجمة البستاني للإلياذة في القاهرة، نظرة واحدة إلى دوريات العصر تؤكد ذلك، جرائد: المؤيد والظاهر ومصروالوطن والمقطم والأهرام والجوائب المصرية والاتحاد المصري والبصير والإخلاص والعمران والحرية والمنعم، ومجلات: المنار، الضياء، الهلال، وغيرها من مجلات مصر وجرائدها، فضلًا عن جرائد الوطن العربي، كلها كتبت عن الترجمة فور صدورها في شهر يونيو. 

وفي الشهر نفسه يكتتب حوالي 100 من مثقفي العصر وأعلامه للاحتفال بالترجمة، وتنضم إليهم «لجنة إحياء اللغة العربية»، التي كان يرأسها الإمام محمد عبده، ويقام احتفال مهيب في مساء الثلاثاء الموافق 14 يونيو عام 1904 في فندق شبرد، ويحضر الاحتفال محمد توفيق البكري نقيب الأشراف، وسعد بك زغلول المستشار في محكمة الاستئناف الأهلية، وعبد الخالق بك ثروت في لجنة المراقبة القضائية بنظارة الحقانية، وأحد أعضاء لجنة إحياء اللغة العربية وسكرتيرها، ومحمد بك فريد المحامي من أعضاء لجنة إحياء اللغة العربية، وعمر لطفي بك المحامي وكيل مدرسة الحقوق، والشيخ رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء، وإبراهيم رمزي صاحب جريدة التمدن، والشيخ إبراهيم اليازجي، والكتاب الأماجد: «محمد أفندي مسعود، حافظ أفندي عوض، عوض أفندي واصف»، وعشرات غيرهم.

ويلفت الانتباه في قائمة الحضور دلالتها القومية والإنسانية، ففي الوقت الذي جمعت القائمة العربي بالأوروبي من المؤمنين بوحدة الثقافة الإنسانية، فإنها جمعت بين الشامي والمصري والعراقي وغيرهم للاحتفاء بمترجم سوري في القاهرة عاصمة الأمة العربية. 

ويلفت الانتباه أيضًا، تنوع المشاركين الذين يتوزعون بين "المطربشين" و "المعممين"، في الاحتفاء بالعلم والعلماء، والاحتفاء بنقل كنوز الإبداع الإنساني إلى اللسان العربي، بالمعنى الذي يؤكد سريان روح التنوير في نفوس الجميع.

مفتي الديار المصرية يشيد بترجمة الإلياذة لـ سليم البستاني

وبعد انتهاء الأكل وشرب القهوة، وقف يعقوب صروف المكلف من المحتفلين بالتقديم، فقال: «لعل احتفالنا هذا أول احتفال من نوعه في ديار المشرق، وعسى أن يكون فاتحة حفلات كثيرة تقام للعلم وإجلالًا لقدر ذويه، وبعد كلمة صروف الطويلة وقف الأديب عبد الخالق ثروت بك سكرتير جمعية اللغة العربية، وتلا كتابًا مرسلًا من فضيلة الإمام محمد عبده مفتي الديار المصرية ورئيس جمعية إحياء اللغة العربية إلى المحتفي به. 

وكان الإمام قد تخلف لعذر طارئ عن حضور الاحتفال، فأرسل كتابه بديلًا عنه ليقرأه سكرتير الجمعية التي يرأسها، وجاء في الكتاب: «لحضرة العالم سليمان أفندي البستاني.. تمت لك ترجمة الإلياذة لنابغة شعراء اليونان هوميروس المشهور، ونسجت قريحتك ديباجة ذلك الكتاب، كتاب الترجمة، فإذا هو ميدان غزت فيه لغتنا العربية ضريعتها اليونانية، فسبت خرائدها وغنمت فرائدها، وعادت إلينا في حلل من آدابها، تحمل إلى الألباب قوتًا من لبابها، وما أجمل ذلك الغلب في زمن ضعف فيه العرب، حتى عن الرغب في نيل الأدب، ما ينال منه عن كثب، فضلًا عما يكسب بالتعب، فحق لك الشكر على كل يعرف. 

قيمة ما وقفت لإكمالها من العمل، فقد سددت به ثلمة كانت في بنية العلم العربي من عشرة قرون، فقد أغار قومنا على دفائن الفنون اليونانية في القرن الثالث من الهجرة وما بعده، فنثروا منها ما كان مخزونًا، ونشروا للناس ما كان مدفونًا، ولم يدعوا غامضًا إلا جلوه، ولا بعيدًا إلا قربوه، ونالت اللغة العربية بصنيعهم ذلك ما لم يكن في حسبانها، فقد صارت لسان العلم والصنعة كما كانت لسان الدين والحكمة.   

لكن كان أولئك الأساطين الأولون يرون أن ذلك ما يفرضه الحق عليهم في جانب العلم الذي لا يختلف فيه مشرق عن مغرب، ولا يختلف على حقائقه الأعجم والمعرب، وظنوا أن ما رواء العلم من آداب القوم ليس مما يتناسب مع آدابهم، لبعد ما بين أنساب أولئك وأنسابهم، فلن يمدوا نظرهم إلى ما كان في اليونانية من دواوين الشعراء، وما صاغته قرائح البلغاء، فلم تنل اليونانية من عنايتهم ما نالت الفارسية والهندية. 

وكان مؤمل اللغة منهم ألا يحرموها نفائس ما اخترع اليونانيون كما زينوها بزينة ما أبدع الهنديون والفارسيون، وبقي ذلك المؤمل في غيب الدهر حتى أتيت ترفع عنه الستر، فما أقر عين العربية بنيل طلبتها، وظهور ما كان منتظرًا لشيعتها، أرجو أن ينال كتابك من الإقبال عليه، والانفتاح به، ما يكافئ تعبك، ويبعث همم العاملين علي تعبك.    

ويلفت «عصفور» إلى: تلك كانت كلمات مفتي الديار المصرية، وكبير شيوخ الأزهر في هذا الزمان، احتفاء بترجمة رائدة، إيمانًا من رئيس لجنة إحياء اللغة العربية بأن لا اكتمال لحياة اللغة إلا بحوارها مع غيرها من اللغات، واقتناعًا بأن هذا الحوار هو أحد أسباب التقدم، وذلك في نبرة تستبدل بتخلف الواقع حلم التقدم في العلوم والآداب: بالمعنى الذي أوضحه تلميذ الإمام الشيخ رشيد رضا في كلمته التي ألقاها في الاحتفال، والتي قال فيها: "إن الروح الأدبي يسبق في الأمم الروح العلمي والصناعي، فمتي سمت آداب الأمة ورقي شعورها تحس بحاجتها إلي العلم فتبعث إليه".

وقد جمع نجيب متري، صاحب مطبعة المعارف ومكتبتها، كل ما قيل في هذا الاحتفال من كلمات، وكل ما كتب أرباب المقامات السامية وأصحاب الصحف والمجلات والأدباء والشعراء، عن ظهور الإلياذة، في كتاب بعنوان «هدية الإلياذة»، قدمه هدية إلى سليمان أفندي البستاني، وتركه لنا وثيقة من وثائق التنوير.