رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل أمر سيد قطب بقتل نجيب محفوظ؟ تفاصيل جديدة لا يعرفها كثيرون

سيد قطب - ارشيفية
سيد قطب - ارشيفية

بدأت علاقة سيد قطب مع نجيب محفوظ عندما أشهر قطب قلمه مدافعًا عن الروائي الشاب، آنذاك، نجيب محفوظ، في مجلة "الرسالة"، عام 1946، إذ كتب حينها: "من دلائل غفلة النقد في مصر، أن تمر هذه الرواية "القاهرة الجديدة"، دون أن تثير ضجةً أدبيةً، أو ضجةً اجتماعيةً، لأنّ كاتبها مؤلفٌ شابّ!". رحلة من تناول روايات محفوظ بدأها قطب، في نيسان (أبريل) عام 1944، بالكتابة عن رواية "كفاح طيبة"، ثم "خان الخليلي"، وختمها برواية "القاهرة الجديدة". لقد كانت كتاباتٍ نقديةً، لكنّها ساهمت، بشكل رئيس، في سطوع نجم محفوظ في سماء الرواية، ليحصد الشاب، الذي تجاهله النقّاد في بداية كتاباته، جائزة نوبل للأدب، في عام 1988.

بعد سنوات من ذلك المقال شاهدنا قطب وهو يترجّل من السيارة، متوجهًا إلى منصة الإعدام، يرافقه الضابط فؤاد علام، وفي سيارةٍ ثانيةٍ جلس نائب سيد قطب في قيادة التنظيم، محمد يوسف هواش، وفي الثالثة جلس عبد الفتاح إسماعيل، ثلاثتهم محكومٌ عليهم بالإعدام بتهمة محاولة قلب نظام الحكم.
عندما بدأت مراسم تنفيذ حكم الإعدام، ارتدى قطب "البدلة الحمراء"، وكالعادة، سُئل إن كان يريد شيئًا، فطلب كوب ماء يشربه، ثم طلب أن يصلي الفجر، ثم دخل غرفة الإعدام، حيث نفِّذ الحكم. ربما ظنّ من أعدموا قطب، آنذاك، أنّهم أغلقوا بإعدامه الصفحة السوداء، لكنّ ما حدث بعد ذلك، جعلهم يدركون أنّها مجرّد صفحةٍ من كتابٍ كاملٍ سطّره قطب، ليصبح مهد السلفية الجهادية في مصر والعالم.

نهايةٌ بعيدة الصلة تمامًا عن البداية، وتحولات غير مفهومة، تنقصها حلقة مبهمة المعالم؛ بين عام 1948، عندما سافر قطب في بعثةٍ دراسيةٍ إلى أمريكا، وبقي هناك حتى عام 1950، إلى أن نشر، عام 1951، في العدد 939 من مجلة "الرسالة"، مقاله الأول، ضمن ثلاثية حملت عنوان: "هل الأدب قد مات؟".

تظهر في ثنايا روايته حالة من فقدان الأمل في كلّ  ما له علاقة بالنقد والأدب، أو عدم التعويل على أية محاولة للإصلاح، ويبرز ذلك التردي الذي أصاب المشهد الأدبي في مصر، قائلًا: "والذي بقي من النقد، انتهى إلى أن يكون أضحوكةً ومهزلةً، فقد تألفت شبه نقاباتٍ أو عصاباتٍ، كلّ نقابةٍ منها، أو عصابة، موكلةٌ بالدعاية (لمنتجات الشركة) التي تنتمي إليها، بطريقةٍ مفضوحةٍ ومكشوفةٍ".

ويزداد اللغز تعقيدًا، في المقال الذي كتبه بعد تلك الثلاثية، في العدد 947 من مجلة "الرسالة"، في آب (أغسطس) عام 1951، وعنونه: "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟، مقدمًا قراءة لكتاب أبو الحسن الندوي". لتكون مقالاته، لسنوات بعد ذلك، عن المشروع الإسلامي، وصراعه مع الغرب والجاهلية، وضرورة العودة إلى ثوابت الدين، فأنهى بذلك حقبة الناقد، وترك الدفّة في مجلة "الرسالة"، تلك الساحة الثقافية التي مضت في تقديم قراءاتٍ عن الأدب، والقصة، والرواية، والشعر، لأكثر من عشرين عامًا.

كتب قطب، عام 1944، في مجلة "الرسالة"، عن رواية محفوظ "كفاح طيبة": "... قصة الوطنية المصرية، وقصة النفس المصرية، تنبع من صميم قلب ٍمصريٍّ، يدرك بالفطرة حقيقة عواطف المصريين، ولقد قرأتها، وأنا أقف بين الحين والحين، لأقول: نعم، هؤلاء هم المصريون".
وعن رواية "خان الخليلي"، كتب قطب، عام 1945، في المجلة نفسها: "... هذه القصة تستحق أن تفرد لها صفحةً خاصةً في تاريخ الأدب المصري؛ لأنّها تسجل خطوة حاسمة في طريقنا إلى أدب قومي، واضح السمات، متميز المعالم، ذي روحٍ مصريةٍ خالصةٍ من تأثير الشوائب الأجنبية، مع انتفاعه بها".

كتابات تنهض بقيمة العروبة، وتمجّد قدسية الانتماء لمعاني الوطن، تبدّلت في عامين فقط! ليعود بعد بعثته في أمريكا، ناقمًا على كلّ شيء، حاملًا لواء العودة إلى الأصولية الدينية، التي عدّها، آنذاك، سبيلًا للنهوض من كبوة المجتمع "الجاهلي"، في رأيه. ذلك المجتمع الذي خسر حين ابتعد عن حكم الدولة الإسلامية، وتلك الأفكار التي آمن بها منشقون عن الإخوان في منتصف الستينيات، ليتأسس "تنظيم" التيار القطبي عام 1965، الذي خرج من رحمه مؤسّس "جماعة المسلمين"، شكري مصطفى، أو ما اصطلح على تسميتها إعلاميًا جماعة "التكفير والهجرة". ومن المؤمنين بالتيار القطبي، في ذلك الوقت، من داخل السجون؛ مرشد الإخوان محمد بديع، وعضو مكتب الإرشاد، الرجل الأقوى في التنظيم، محمود عزت.

ظهرت علاقة قطب بمحفوظ بشكل أكبر عندما اتخذه محفوظ أحد شخوص "المرايا"، يظهر ذلك جليًا من تطابق رحلة قطب وشخصية "عبد الوهاب إسماعيل". كتب عنه فيها قائلًا: "إنّه اليوم أسطورة، وكالأسطورة تختلف فيه التفاسير، وبالرغم من أنني لم ألقَ منه إلّا معاملةً كريمةً أخويةً، فإنني لم أرتح أبدًا لسحنته، ولا لنظرة عينيه الجاحظتين الحادّتين". ويكمل محفوظ حديثه عن إسماعيل أو قطب: "ويومًا كنت في زيارةٍ للأستاذ سالم جبر، فقال لي: - الظاهر أنّ نجم عبد الوهاب إسماعيل سيلمع قريبًا. فسألته باهتمام: - ماذا تعني؟
- أصبح من المقرَّبين.
- ككاتبٍ سياسيٍّ أم ككاتبٍ دينيٍّ؟
- باعتباره من الإخوان المسلمين.
فهتفت بدهشة: الإخوان؟! لكنني عرفته سعديًا متطرفًا.
فقال متهكمًا: سبحان الذي يُغيّر ولا يتغير!"
واسترسل محفوظ واصفًا تحولات عبد الوهاب إسماعيل، من الناقد إلى المتطرف: "وقال بقوة: الاشتراكية، والوطنية، والحضارة الأوروبية، خبائث علينا أن نجتثها من نفوسنا. وحمل على العلم حملةً شعواء، حتى ذهلت، فسألته: حتى العلم؟!
- نعم لن نتميز به، نحن مسبوقون فيه، وسنظل مسبوقين مهما بذلنا، لا رسالةً علميةً لدينا نقدمها للعالم، لكن لدينا رسالة الإسلام وعبادة الله وحده".
أولاد حارتنا
"بعد تلك القصة بسنوات طويلة كتب محفوظ إهداء على مجموعة من روايته وطلب من وكيل النائب العام إرسالها إلى من حاولوا قتله: "إلى من يخالفني الرأي أهدي سطورًا كتبتها لمصلحة مجتمع لن ينصلح حاله إلا بالثقافة"، كلمات اختارها نجيب لتكون نص الإهداء لرواياته الثلاث، طالبًا إرسالها إلى من حاولوا قتله بسكين غادر وجد طريقه لرقبة محفوظ، والفاعل فرّ قبل أن يكمل مهمَّته، وحين قُبض عليه، اتّضح أنّه يجهل القراءة والكتابة، وأنّه لم يكن يعرف محفوظ أصلًا! فقط أخبره أمير جماعته بأنّ محفوظ كافر، فآمن بفتوى فقيه الجماعة الإسلامية، عمر عبد الرحمن، وقرر ذبح الكافر. الفتوى نفسها التي أصدرها عبد الرحمن، قبل ذلك بسنوات، ليُقتل بسببها فرج فودة، وقد خرج قاتله بعفوٍ رئاسي، في فترة حكم الإخوان لمصر، ويلقى حتفه بعدها في سوريا، حيث ذهب ليقاتل ضمن صفوف داعش، فلم تكن 25 عامًا قضاها في السجن كفيلةً بتبديل قناعاته، ولا زال المجتمع يعيش في الجاهلية، ويسير على أرضه مجموعاتٌ من الكفار يستحقون القتل، الفكرة نفسها التي زرعها قطب من قبل.

محاولة قتل حدثت بعد إعدام قطب بسنوات، فلم يكن موجودا بشخصه، لكن تواجد بأفكاره، فبين تدشين محفوظ أديبًا كبيرًا، في كتابات قطب، والإرهابي الذي حاول قتل ذلك الأديب الكبير، معتمدًا أيضًا على كتابات قطب. يتراءى لنا مشهدان يجمعهما عاملٌ مشتركٌ هو نجيب، ويبقى بينهما لغزٌ لا يزال غير مفهومٍ حتى الآن.