رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تشرشل العرب

جريدة الدستور

عند الإبحار في صفحات التاريخ التي تزدان ببصمات محركيها عبر الزعماء ، الساسة ، الفلاسفة ، المفكرين و الدعاة ، نتلمس ومضات تلك الإنجازات التي ساهمت في الإبقاء على البشرية من خلال هؤلاء العظماء الذين يقدمون لنا الأمجاد، عنوان الأمم التي تبحث عن الديمومة و الإستمرار.

من تلك الشخصيات التي ساهمت في كتابة صفحات أممها بأحرف من نور و كلمات تُنير للبشرية أجواءها المعتمة في أوقات المحن ، زعيمين كبيرين قدما لأمتهما الكثير و الكثير حتى لو إختلفت الآراء نحوهما ، لكن نقطة الإلتقاء بين الجميع ، هو إبقائهما على الوطن في أوقات التحدي و لحظات المخاض العسير للنصر المرجأ من أنياب الظروف الصعبة.

هاتان الشخصيتان هما :

ونستون تشرشل ذلك الرجل الذي تصدى لأهم اللحظات في التاريخ البريطاني وقت توليه المسئولية لرئاسة وزراء بريطانيا ، بعد إقصاء نيفيل تشمبرلن من منصبه عبر مجلس العموم البريطاني سنة 1940 ، لفشله في تجنيب بريطانيا و جيرانها بالدخول في الحرب ، مما أدى إلى إظهار الأقدار لرجل المرحلة و الذي فضًّل الحرب على سلام تشممه من رحيق الذل الذي طال فرنسا عبر جنرالها فيليب بتان الذي وقع على هدنة تؤكد على تبعية فرنسا لألمانيا النازية فيما يعرف بحكومة فيشي تحت رئاسته.

تحدى تشرشل إعتراضات الجميع بحزب المحافظين لتوليه المسئولية عبر قرار الملك جورج السادس و البرلمان مقابلاً شكوك خصومه بتأدية المهمة على أكمل وجه لتكون كلماته الأولى خطوة لعبور الأزمة:

ليس لدي ما أقدمه لكم سوى العرق و الكفاح و الدماء و الدموع.

إستعان هنا بنشوء صفحات التاريخ البريطاني من خلال الملكة إليزابيث الأولى التي قادت معركة الأرمادا ضد الأسطول الإسباني سنة 1558 لتعلن نهائيًا بنصرها الكبير عن بزوغ شمس الإمبراطورية التي لن تغيب عنها الشمس .

واجه المؤرخ ، الكاتب ، الفنان و السياسي المخضرم أعتى الأسماء الشرسة كهتلر و موسوليني محرزًا نصره المحقق برؤية شاملة تجمع بين الحنكة السياسية و الرؤية العسكرية ، مطويًا صفحات التاريخ على على تلك الأسماء الدموية بلا عودة مجددة.

الشخصية الأخرى التي نحتفل بمئويتها الآن الرئيس الراحل أنور السادات الذي أُطلق عليه بلا تردد ، لقب (تشرشل العرب) لوجود نقاط اتشابه في طريق السياسة الوعر الملييء بالأشواك و الطعنات و التشكيكات في أوقات ظهور الكاريزمات الهامة في تاريخ الأوطان.

واجه السادات نفس المصير وقت توليه المسئولية عقب وفاة الزعيم الكبير جمال عبد الناصر ، محاطًا بالشكوك و الهمهمات الرسمية و الشعبية في ملء الفراغ الذي تركه الزعيم ، مما وضعه في محك المواجهة حسب إختيار القدر و التاريخ في إجراء عملية السبك بكتابة اسمه بحروف من نور .

أستلم المهمة و هو يلقي كلماته الأولى بجس نبض الجماهير ، مواجهًا شعبية سلفة الجارفة مستعينًا بحنكته السياسية التي صهرتها الأيام ما بين الصعود و الهبوط كتشرشل في أوقات المعاناة في لحظات الأسر و السجن ، متلمسًا بفن كتمانه المعهود ما يساعد على صهر اسمه بشكل يختلف عن سابقه كي لا تطارده المقارنات في لحظات الإعداد للمعركة المنتظرة.

إستعان السادات عبر سليقته الصحفية و الأدبية و قراءاته المتعمقة بصفحات تاريخنا العتيق من خلال نفحات أحمس الأول قاهر الهكسوس الذي عبر بمصر إلى بر الأمان بعودتها مجددًا كالجسد الواحد ، عقب مائتي عام من الإحتلال لتعود كيمت للمعانِها القديم ، مستعينًا بعبور الأجداد لجدار المستحيل ما بين اليأس و الرجاء.

تجسد هذا مجددًا عبر ملحمة العبور العظيم التي كسرت صروح الشكوك و الهمهمة ، عند إذاعة بيان العبور في العام 1973 مستعينًا بتسمية الكتائب و العمليات الحربية بأسماء دينية كما فعل أحمس ، لتوصيل دبيب الحماس و فورة القتال للجنود ، كدليل قاطع على النجاح المؤسس بميزان الإيمان و الأخذ بالأسباب.

نجح السادات في كسر أكذوبة الجيش الذي لا يقهر ، مما أدى إلى إقصاء جولدا مائير الملقبة بالمرأة الرجل و سوبرمان حرب حزيران 1967 موشيه ديان وزير الدفاع الإسرائيلي ، ليفتح المجال للمفاوضة بناءً على القوة و التي تمت بنزع بقية سيناء العزيزة من بين أنياب أشرس الساسة في التاريخ الإسرائيلي مناحيم بيجين رئيس الوزراء الإسرائيلي.

تأتي جائزة نوبل النقطة المشتركة بينهما في سجلهما التاريخي ، فتشرشل حصل عليها في الآداب سنة 1953 لما قدمه من أعمال تأريخية للحربين الكبريتين علاوة على تأريخه المميز لبريطانيا منذ البداية و حتى الوقت المعاصر.

في العام 1978 ُمنح السادات جائزة نوبل للسلام مناصفةً مع مناحيم بيجين لتوقيعهما على إتفاقية كامب ديفيد كنقطة فصل في حسم الصراع العربي الإسرائيلي ، ليكون في سجل الخالدين مع كبار الشخصيات في مجالات الجائزة الست.

ما جمع بين الشخصيتين حب القراءة ، نشوة المغامرة ، عشق التميز ، القدرة على المواجهة في ساعات التاريخ الحالكة مما ساهم في أن يحوزا على إعجاب المستشار الألماني الأسبق هيلموت شميت عند سؤاله :

من هم أعظم الناس الذين مروا على القرن العشرين سياسيًا ؟

كان رده كالآتي :لقد جاد الله على البشرية في النصف الأول من القرن العشرين بونستون تشرشل ، و في منتصفه بأنور السادات.

ثم سألوه : و أين موقعك بينهما ؟

رد على الفور: يأتي بعد أنور السادات.