رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«صورة مقلوبة».. رحلة الإمام محمد عبده من الإرهاب إلى التجديد (7)

محمد عبده
محمد عبده

يتعرض الشيخ محمد عبده، منذ عدة عقود لحملات ظالمة، وفهم خاطئ لكثير من أفكاره وتصوراته وشروحاته العلمية، فهناك من يتهمه بالعصرانية والتغريب وهناك من يتهمه بالسلفية والأصولية وآخرون يرون علاقته بالماسونية والعمالة للغرب.

الصورة الأخيرة هي التى تتبنها الجماعات الإرهابية المتطرفة وتحاول أن تروج لها لتصد الناس عن أفكار الرجل التجديدية التي عمل على كشفها منذ بداية ظهور هذه الحركات.

الحقيقة أن هناك صورة مختلفة غائبة للشيخ الإمام المجدد محمد عبده لا يعرفها الكثيرون ولم يقترب منها الباحثون عن الحقيقة. صورة مختلفة تماما عن الذي يردده سواء أعداؤه في الأزهر أو من أبناء الجماعات الإسلامية المتشددة والذين في الغالب اكتفوا فقط بقراءة كتب عن الإمام محمد عبده مثل كتاب "بلايا بوزا" لصاحبه محمد الجنبيهي، وهو أول كتاب صنف في الهجوم على الإمام، الذي اعتبره نبتا شيطانيا يظهر في الأرض الخصبة، وكذلك كتاب نقل عن كتاب الجنبيهي وهو "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر" لمحمد محمد حسين، ولم تقرأ للشيخ ولا حتى كتابًا واحدًا.

لا يعرف الكثير من أبناء هذا الجيل الصورة المختلفة التي كان عليها الشيخ محمد عبده قبل أن يصبح إمام التجديد ومفتي للديار المصرية.


السرية والدعوة التنظيمية 
كان محمد عبده في بدايات حياته يؤمن بالعمل السري والتنظيمي والحركي، وكان يسعي للانقلاب علي الخديو توفيق ويبحث عن تنظيم سري ينفذ فيه كل الخطط التي تلقاها وتعلمها على يد الشيخ جمال الدين الأفغاني عندما قدم إلى مصر في عام (1871ـ 1879). 

كانت صلات الإمام محمد عبده كبيرة جدًا بالأفغاني، كان موقفه من الخديو إسماعيل معروفا وهو موقف المعارض فقد أسس حزب أسماه "الوطني الحر". بل وكان يعتبر أن محمد علي مجرد تاجر زراعي وليس سياسيًا محترفًا، وجنديا باسلا، ومستبدا ماهرا، لكنه كان لمصر قاهرا، ولحياتها الحقيقية معدمًا.. وكل ما يراه المصريون من صور الحياة فهي من أثر غيره.

كان الشيخ جمال الدين الأفغاني هو المحرض علي خروج محمد عبده علي الخديو إسماعيل فأفتى له في إحدى مقابلاتهما السرية أن يقتل إسماعيل على جسر "قصر النيل"، وهذا ما يعترف به الشيخ محمد عبده نفسه فى نص مذكراته حيث قال: "كان الشيخ جمال الدين الأفغاني موافقا على الخلع، واقترح علي أن أقتل إسماعيل وكان يمر في مركبته كل يوم على جسر قصر النيل، ولكن كل هذا كان كلاما نتهامسه فيما بيننا ـ وكنت أنا موافقا الموافقة كلها على قتل إسماعيل ولكن كان ينقصنا من يقودنا في هذه الحركة.

هذا ما ورد في نسخة "ألفريد ساكون بلت- التاريخ السري لاحتلال إنجلترا لمصر"، المنشور في مكتبة الآداب صفحة 20، كما وردت أيضًا فى رأي الشيخ محمد عبده في تاريخ عرابي ص 354. 

وهذا الموقف الذي بثه أيضًا الإمام محمد عبده في نفوس كثير من الأزاهرة في هذا التوقيت فقد كانوا يتباحثون سرًا في ربيع عام 1879م عن كيفية عزل إسماعيل بالوسائل الممكنة وإذا لم يتمكنوا من ذلك فعن طريق التخلص منه بالاغتيال، وهذا ما شعر به إسماعيل من خلال أجهزة حكمه وأبلغوه بخطر ما فحمله بالظهور بالمظهر الدستوري، وهو ما ورد أيضًا فى نسخة أخرى من كتاب "التاريخ السري لاحتلال إنجلترا لمصر"، لبلنت ولكن في طبعة أخرى بالهيئة العامة لقصورالثقافة ص 198. 

تشرب محمد عبده، الأفكار (التنظيمية والثورية) من شيخه الأفغاني وآمن بها، ولم يكن يعارضه فيها؛ وكان منهجه في بداية حياته وهي تأليب الشعب والعامة على ولاة أمورهم، وتجرئتهم عليه بنشر معايبه، وهذا ما جر عليه الويلات باعتباره أزهريا سكت عن هذه الأفكار الثورية ولم يسهم في وأدها، بل غض الطرف عنها، وتعاطف معها، إلى أن نمت وتعاظمت، حتى كانت نهايتها عند قيام الزعيم أحمد عرابي بثورته عام 1881م.



السجن والمراجعات
فور هزيمة الثورة العرابية بزعامة أحمد عرابى، ودخول الجيش الإنجليزي إلى القاهرة عصر يوم 24 سبتمبر 1882م، بدأ القبض على زعماء الثورة لمحاكمتهم، وكان من بينهم الإمام محمد عبده، وحسب مذكراته التى حققها وعلق عليها طاهر الطناحى، عن «دار الهلال- القاهرة»، فإن «الإمام أودع السجن رهن مثوله أمام المحكمة العسكرية التى ألفها الخديو توفيق، وبقى ثلاثة أشهر وأياما، ثم حوكم، وحكم عليه بالنفي ثلاث سنوات فأقام في بيروت مدرسا بمدرسة جمعية المقاصد الخيرية للأدب والتوحيد وعلوم الدين، ثم فر إلى باريس».

لقد أصيب محمد عبده بذهول وصدمة شديدة بعد فشل حركة عرابي وقمعها وتمزيقها، مما جعله وخاصة بعد الذي أصابه فى السجن من أذى وتعذيب يعيد النظر في هذا المسلك (الثوري) ويعيد مراجعه أفكاره في الثلاثة أعوام التي أبعد فيها عن الوطن فكانت بدايات معرفه جديدة له. 

أصبحت مهمة محمد عبده، بعد أن عاد من المنفى "التقريب بين الإسلام وبين الحضارة الغربية، واتخذ اتجاهه هذا أشكالًا مختلفة؛ فظهر أحيانًا في صورة مقالات أو مشاريع أو برامج تدعو إلى إدخال العلوم العصرية في الجامع الأزهر، وظهر تارة أخرى في صورة تفسير لنصوص الدين من قرآن أو حديث يخالف ما جرى عليه الأزهر.

ترى من تختار جماعات العنف السياسي والعنف الديني محمد عبده الثائر المناضل الذي كاد أن يتورط في عملية اغتيال الخديوي إسماعيل بفتوى من الشيخ الأفغاني أم محمد عبده المصلح المجدد؟