رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الاستتابة».. تشويه رحمة الله على مذابح الإرهاب

جريدة الدستور

يعتبر لفظ "الاستتابة" من أكثر المصطلحات التي تستخدمها الجماعات المتطرفة، لارتباطه "الصوري" بالأحكام التي يطلقونها على معارضيهم من المسلمين، مثل الكفر والردة، وغيرها، ورغم ارتباط المصطلح الفقهي برحمة الله الواسعة، التي يتمتع بها التشريع الإسلامي، والذي يعطي الحاكم أو القاضي من خلاله، الفرصة لمن وقع في حد من حدود الله، لمراجعة نفسه والإفلات من العقوبات المغلظة التي قد يدفع ثمنها حياته، بعد القدرة عليه أو وقوعه في يد القضاء.

وبقدر ما تمنح الاستتابة المتهم الفرصة في الإفلات من تطبيق الحد الذي قد يصل إلى القتل- بمجرد النطق بلسانه- فإنها أيضا تفتح له آفاقا واسعة من رحمة الله في الآخرة، عن طريق إزالة الشبهة التي دعته للوقوع في الردة، التي قد تهوى به في نار جهنم في الآخرة، وتعيده عنصرا إيجابيا فعالا في المجتمع كأنه وُلد من جديد، وهو ما يؤكد القاعدة الفقهية التي تقول إن الغاية من الحدود في الإسلام، ليست توقيع العقوبة بقدر تحقيق الردع.

استتابة أم بيعة؟

ورغم أهمية كل ما سبق، فقد غابت هذه القاعدة عن فهم الجماعات المتطرفة، التي رفعت راية الانتقام من مخالفيها، وتغاضت عن معاني رحمة الله الواسعة التي شملتها؛ مستخدمة في ذلك مصطلحات شرعية، منزوعة من سياقها أو مؤولة تأويلا سياسيًا، يخدم أغراض الجماعة، وعلى رأسها تطبيق حد الردة وما يتعلق به، ومن ذلك تحويل الاستتابة إلى (تخلي الأسوياء والصالحين عن استقامتهم والإقرار بمنهج الجماعات الإرهابية في تكفير المسلمين والتسلط عليهم)، وإلا صار من يرفض ذلك مرتدا، وتنصب له لجان الاستتابة الشكلية، فإن أصر على استقامته ورفض الانحراف وتأييد الجماعة، أو ترك جماعة أخرى معارضة لها، وجب تنفيذ حد الردة عليه، كما وقع خلال الأعوام الماضية من الكثير من الجماعات ومنها بالطبع تنظيم "داعش" الإرهابي.

ومن أشهر لجان الاستتابة الجماعية تلك التي عقدها تنظيم "داعش" الإرهابي لمعلمي "دير الزور" السورية، وقد أصدر التنظيم الإرهابي بيانا حول ذلك في يونيه 2015، وشملت الاستتابة- بحسب البيان- كل معلم سوري اشتغل في التدريس، ولو يوما واحدا، منذ عام 1970م بالمدارس السورية، بمن فيهم المحالين للتقاعد، أو الذين تركوا التعليم منذ زمن واحترفوا مهنة أخرى.

وأكد البيان أن "من يتأخر عن إعلان توبته يعد مصرًا على الكفر، تطبق بحقه الأحكام الشرعية" وهي القتل ردة، ولم يكن ذلك البيان سوى دعوة لمبايعة التنظيم وليس الاستتابة.

وشبيه بما وقع في سوريا إلحاح التنظيم الإرهابي، على استتابة المتصوفة من أهالي سيناء، وتنفيذ حد الردة على بعضهم ومنهم الشيخ المسن سليمان أبو حراز الذي يبلغ من العمر 98 عاما بعد اخطافه بيومين وبث التنظيم إصدارا حول الواقعة تحت عنوان "تنفيذ الحكم الشرعي على كاهنين".

كما استهدف التنظيم مسجد الروضة بعد أيام من زيارته وتحذير الصوفية من إقامة شعائر فيه، وتم تنفيذ الحكم بقتل المصلين في المسجد وبلغ عددهم أكثر من 300 شخص أثناء صلاة الجمعة في نوفمبر من العام الماضي، واعتبر التنظيم الإنذار دعوة للاستتابة، وتم تنفيذ العملية باعتبار أن "المصلين" في المسجد مصرون على الردة.

تصحيح المفاهيم

اتفق الفقهاء في القديم والحديث، على ثبوت "الاستتابة"، قبل تنفيذ الحدود، من منطلق رحمة الله تعالى الواسعة بعباده، واختلفوا في وقوعها على جرائم السرقة والزنا والقتل العمد، ومنهم من منعها لتعلقها بحقوق العباد في تلك الجرائم، ومنهم من أباحها، ومنهم من قال بوجوب الاستتابة مطلقا في الجميع قبل تنفيذ الحكم، وفرقوا بين هذه الجرائم وبين ما يقع من العباد من الكفر.

يقول الشيخ محمد أبو زهرة: "الحدود هي حقوق الله عز وجل، وإن كانت في مداها وغايتها للمحافظة على حق المجتمع. ومن المقررات الشرعية أن حقوق الله تعالى قابلة للغفران، وأن الله غفور رحيم يعفو عن السيئات، لمن تاب وآمن وعمل صالحًا، ولا شك أن التوبة تجْبُ ما قبلها بالنسبة لحقوق الله عز وجل. وإن الله يغفر ما يكون في حال الكفر إذا انتهى الكافرون إلى الإيمان كما قال تعالى: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال 38]".
(انظر: محمد ابو زهرة، الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي، 224)

وهنا يُبطل أبو زهرة، حجج الجماعات الإرهابية التي تنطلق لتطبيق الحدود مباشرة- رغم عدم جواز ذلك لها؛ لأنه حق من حقوق القضاء، وليس من حقوق الجماعات أو الأفراد أو آحاد الناس، وأن باب التوبة مفتوح أمام الكافرين.

ويتفق أبو زهرة في هذه النقطة مع قول أئمة المسلمين، ومن ذلك ما ذكره الإمام الشافعي في الرواية التي نقلها عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال الشافعي:

" قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجل من قبل أبي موسى يسأله عن الناس، فأخبره ثم قال هل كان فيكم من مغربة خبر؟، فقال: نعم؛ رجل كفر بعد إسلامه. قال: فما فعلتم به؟، قال قدمناه فضربنا عنقه، فقال عمر رضي الله عنه، فهلا حبستموه ثلاثا؟، وأطعمتموه كل يوم رغيفا، واستتبتموه؟؛ لعله يتوب ويراجع أمر الله، اللهم إني لم أحضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغني... فإن لم تجب الاستتابة لما تبرأ من فعلهم...

وقال: "تجب استتابة المرتد والمرتدة قبل قتلهما، لأنهما كانا محترمين بالإسلام، فربما عرضت لهما شبهة فيسعى في إزالتها، ولأن الغالب أن تكون الردة عن شبهة عرضت للمرتد فتعلق بها، فلم يجز الإقدام على القتل قبل كشفها والاستتابة منها كأهل الحرب، لا يجوز قتلهم إلا بعد بلوغ الدعوة وإظهار المعجزة، ولأن المقصود بقتل المرتد إقلاعه عن ردته والاستتابة أخص بالإقلاع عنها من القتل، فاقتضى أن تكون أوجب منه".
(انظر:الحاوي الكبير، الجزء 13، ص 156)

ورغم تواتر الأدلة الشرعية على وجوب الاستتابة، ووضوحها، فقد تغاضت الجماعات الإرهابية عن ذلك كله، وتمسكت بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: "من بدل دينه فاقتلوه" رغم التوجيه الشرعي الذي يوضح المقصود بمن يقتل في الحديث وشروط ذلك.

وحول هذا الحديث قال الشافعي:
فأما حديث " من بدل دينه فاقتلوه " فليس فيه ما يمنع من الاستتابة..."
(انظر:الحاوي الكبير، الجزء 13، ص 156)