رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التعايش مع الأقليات في الدول الإسلامية.. هل يعني الرضا بعقيدتهم؟

تعبيرية
تعبيرية

تظهر مع مواسم أعياد النصارى، كل عام الكثير من الأسئلة المثيرة للجدل، حول مشروعية مشاركتهم في أعيادهم، وقد وضع الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف قاعدتين إسلاميتين عريضتين في التعامل مع هذه الأعياد، في أكثر من مناسبة، أبرزها لقاء الأحد الماضي في الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، خلال حواره مع البابا تواضروس بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، والتي أكد خلالها القاعدة الأولى فقال: "إن هناك فرقا بين احترام الآخر والإيمان بعقيدته".

وكرر الإمام الأكبر هذه القاعدة في أكثر من مناسبة، وذكر القاعدة الثانية في كلمته التي ألقاها في "مؤتمر حوار الشرق والغرب" بالفاتيكان في نوفمبر الماضي، وقال: "إن الإيمان الديني اعتقاد يجب أن يرقى إلى درجة العلم الذي لا يحتمل النقيض بحالٍ من الأحوال، أي لا يقبل الشك ولا الظن والوهم، وهذا يتطلَّب بالضرورة أن تكون العقيدة حقيقة مطلقة، وأن ما يناقضها لا ينطبق عليه هذا الوصف".

وأضاف: "في تصوري أن هذا هو الأساس المتين لبنيان أي دين من الأديان، وإلَّا لو فتح باب النسبية في الدين وقَبول الشك في معتقداته، أو التسليم بأن دِينًا غيره هو أيضًا يمتلك الحقيقة، رغم التناقض بين الدينين في أساس الاعتقاد، لو فتح هذا الباب أمام المؤمنين بالأديان لكان عليهم أن يختاروا بين أمرين: إما الشك في دينهم، وحينئذ لا ينطبق عليهم وصف المؤمنين بهذا الدِّين. أو يقبلوا اجتماع الخطأ والصواب على فكرة واحدة، وهذا من المستحيلات التي لا يمكن تصورها".

التعايش والإيمان بالقدر

وتعبر هذه الرؤية العميقة لشيخ الأزهر عن نظرة الإسلام للآخر، التي تؤصل التعايش في سلام بين الجميع على الأرض، في احترام متبادل بين كل البشر، وهي النظرة التي يتفرد بها الإسلام عن غيره من الحضارات والأديان الأخرى.

وترتبط قاعدة التعايش السلمي مع الأقليات في البلاد الإسلامية بجانب العقيدة، خاصة جانب الإيمان بقضاء الله وقدره، فالله تعالى هو الخالق المدبر لهذا الكون، ولو شاء لجعل الناس جميعا أمة واحدة، ولهداهم أجمعين، ولكن إرادة الله ومشيئته الكونية التي لا راد لها، هي أن يكون هناك تنوع بين البشر، ولن يستطيع كائن من كان أن يغير هذا إلى يوم الدين، قال تعالى: { فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 35].

يقول الطبري في تفسير هذه الآية: "لو أشاء أن أجمعهم على استقامة من الدِّين، وصوابٍ من محجة الإسلام، حتى تكون كلمة جميعكم واحدة، وملتكم وملتهم واحدة, لجمعتهم على ذلك, ولم يكن بعيدًا عليَّ، لأنّي القادرُ على ذلك بلطفي, ولكني لم أفعل ذلك لسابق علمي في خلقي، ونافذ قضائي فيهم، من قبل أن أخلقهم وأصوِّر أجسامهم " فلا تكونن " ، يا محمد،" من الجاهلين "، يقول: فلا تكونن ممن لا يعلم أن الله لو شاء لجَمع على الهدى جميع خلقه بلطفه, وأنَّ من يكفر به من خلقه إنما يكفر به لسابق علم الله فيه، ونافذ قضائه بأنه كائنٌ من الكافرين به اختيارًا لا إضطرارًا, فإنك إذا علمت صحة ذلك، لم يكبر عليك إعراضُ من أعرض من المشركين عما تدعُوه إليه من الحق، وتكذيبُ من كذَّبك منهم".

وعلى ذلك فالمسلمون يعلمون علم اليقين أن التنوع مشيئة إلهية، وأن المعترض على ذلك إنما يعترض على قدر الله، وبالتالي، فإنهم يسعون دائما إلى البحث عن الإجابة عن كيفية التعامل مع غيرهم باعتبار أن وجودهم معهم في هذه الحياة أمر لا محالة منه، وهو ما يتطابق تماما مع الفطرة الإنسانية السليمة.

كما يعلمون أيضا أن إيمانهم وإسلامهم رزق وفضل من الله عليهم، فلا يتعالون بذلك على غيرهم، لأن قلوبهم بين يدي الله تعالى يقلبها كيف يشاء، ومن الممكن أن تتحول قلوبهم من الإيمان والهداية، إلى ما يناقض ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي في سننه عن أنس قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقلت: يا رسول الله آمنا بك، وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: نعم؛ إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله، يقلبها كيف يشاء)، وكيف لا وهم لا تصح صلاتهم بغير طلب الهداية من الله، في سورة الفاتحة، قال تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 2-6].

ولذلك فالمسلمون يعلمون يقينا أن الهداية من الله تعالى، ولذلك فإنهم- أو هكذا ينبغي- لا يتفاخرون أو يتعالون على غيرهم بما هداهم الله إليه، قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17].

وسطية الإسلام واتباع المشيئة الشرعية

والمسلمون أيضا مأمورون بالتعامل بالحسنى مع غيرهم، ويظهر ذلك جانب الوسطية التي يؤكد عليها الإسلام، والذي يعتبر الاعتراف بالآخر، والمساواة في الحقوق الإنسانية عبادة من العبادات، تتجلى فيها مشيئة الله الشرعية من أمر ونهي يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، فأصل البشرية كلها واحد، وبالتالي فإن الحقوق الإنسانية مكفولة للجميع في الكتاب والسنة، وفي آية الحجرات كان الحديث عاما لكل الناس، وهي دعوة للمسلمين وغيرهم بأنهم سواسية في الحق في الحياة، أما التقوى والإيمان فهو ميزان الأفضلية وليس لأحد شأن فيها، فليس لمسلم أن يمنع غير المسلمين من حقوقهم الإنسانية، والعيش على الأرض المشتركة معهم في سلام.

وقد شددت السنة المطهرة أيضا على عدم المساس بحقوق الآخر، ومن ذلك ما رواه ابن ماجة في سننه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمنع الماء والنار والكلأ)، أي لا يجوز لمسلم أن يحجب هذه الأشياء التي هي المعين على الحياة عن الناس جميعا مسلمين وغير مسلمين، ومن يفعل ذلك فقد تعدي حدود الله.

وكما أمر الإسلام بالمحافظة على حياة الغير، واحترام حقوقه الإنسانية التي تضمن له العيش، فقد أمر أيضا بالمحافظة على كرامته، ومراعاة مشاعره، ونهى عن جرح عواطفه؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 46]، وقال أيضا: ﴿ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 108]، وفي ذلك نهي صريح وواضح عن النيل من عقيدة الغير، أو التسفيه منها، وأمر للمسلمين بجدال أهل الكتاب بالحسنى، والموعظة الحسنة.

الحفاظ على العقيدة

ومع كل ما سبق، فإن المسلمين أيضا مأمورون بالمحافظة على عقيدتهم نقية سليمة، بعيدا عن التأثر بعقيدة الآخر أو نفاقه أو تضليله؛ لأن المسلمين سيكونون شهداء على جميع الأمم يوم القيامة، ومن شأن الشهادة تحقيق شرط العدالة، قال تعالى: { وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:134]

ومن شروط العدالة أيضا الصدق والمصارحة، قال تعالى في سورة الكافرون: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)}، فقد ناداهم بوصفهم وصفا مباشرا بصفة الكفر، ولكنه لم يتعد على اختيارهم في العقيدة، ولم يجبرهم على الدخول في الإسلام، وترك لهم الحرية لاختيار ما يشاءون من عقائد يحاسبهم الله عليها وحده، وأمر المؤمنين بألا يرضوا بعقيدتهم ودينهم، وألا يتعدوا عليهم.

وهذه كانت وسطية الإسلام التي أوضحها الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف في كلمته التي ألقاها خلال لقائه البابا تواضروس كما بينا، وهي تعني أن الإسلام يحترم الآخر، ولا يتعدى على حقوقه، ويؤمن إيمانا جازما بحق الآخر في العيش سالما بين المسلمين، وفي الوقت نفسه منع أتباعه من الرضا بعقيدة أخرى تخالف عقيدة الإسلام، فلا إفراط ولا تفريط في الدين.