رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الولاء والبراء».. أزمة الجماعات الإسلامية مع مسائل العقيدة

جريدة الدستور

تعتبر عقيدة الولاء والبراء أحد أهم المرتكزات التى ترتكن إليها الجماعات المتطرفة فى أدبياتها وتعدها مسوغًا مباشرًا لعمليات القتل والذبح باسم الدين، فقد أسسوا عليها فكرها الذى يخالف في الأصل عقيدة (الولاء والبراء) التى دعت إليها نصوص الشرع الصريحة، وتناقلها علماء الإسلام منذ بداية الدعوة إلى الآن، حتى نفروا المسلمين من مجرد ذكر المصطلح الذى جعلوه سيفًا مسلطًا على رقاب المسلمين، عن طريق تشويهه وتأويله حسب ما يحقق مصالحهم أو فهمهم الضيق لشرع الله، فاستحلوا بذلك الدماء والأموال والأعراض.
ومسألة استحلال دماء المسلمين عن طريق الفهم الخاطئ للكتاب والسنة، ليست وليدة اليوم، فما خرج الخوارج على الصحابة واستحلوا دماءهم، إلا بالتأويل الباطل لنصوص الشرع التى أنزلوها فى غير ما شرعت له، فقد روى الدارمى بسند صحيح، والآجري في الشريعة، حديث رقم: 203: عن أيوب، عن أبى قِلابة قال: «ما ابتدع قوم بدعة إلا استحلوا فيها السيف»، وهذا النص وحده يكشف أن خطورة الفهم المشوه للشرع لا تكون نتيجته إلا استحلال الدماء كما تفعل الجماعات الإرهابية.

مخالفة عقيدة «الولاء والبراء»

ونبدأ من الجماعات الإرهابية نفسها، ونطرح السؤال التالي: هل التزمت تلك الجماعات بعقيدة الولاء والبراء، أم وقعت في مخالفتها؟
الإجابة بالطبع، لم تلتزم كل الجماعات المتطرف بعقيدة الولاء والبراء، ويُستدل على ذلك من تعريف المصطلح نفسه الذي لم يختلف أحد عليه، حتى تلك الجماعات المنحرفة نفسها، فقد اتفق العلماء على أن الولاء شرعًا، هو: (حُبُّ الله تعالى ورسوله ودين الإسلام وأتباعِه المسلمين، ونُصْرةُ الله تعالى ورسولِه ودينِ الإسلام وأتباعِه المسلمين).
والبراء هو: (بُغْضُ الطواغيت التى تُعبَدُ من دون الله تعالى «من الأصنام الماديّة والمعنويّة: كالأهواء والآراء»، وبُغْضُ الكفر «بجميع ملله» وأتباعِه الكافرين، ومعاداة ذلك كُلِّه). ومعنى تُعبَدُ من دون الله أن يقدم حبها وطاعتها على حب الله ورسوله، فيكون لها الولاء والانقياد والاتباع في مواجهة ما أمر الله به فتصير إلى المعاصى بدرجاتها، وقد تصل إلى أحد نوعى الشرك الأصغر والأكبر بدرجتيه.

أولا: الولاء

تستغل الجماعات التكفيرية عقيدة الولاء والبراء أولًا فى إنشاء الجماعة، ولم تقم جماعة في تاريخ الإسلام إلا على تكفير المسلمين، واعتبار أن أتباع الجماعة وحدهم، هم المعنيون بالولاء، والبراءة من غير المنتمين لها، حتى وإن كانوا يسيرون على طريقتها، والدليل على ذلك ما يحدث الآن بين الجماعات المسلحة التي تقاتل بعضها بعضًا وتكفر بعضها بعضًا، وكل ذلك يستند إلى الولاء للجماعة والبراءة من غيرها.
أما عن مخالفة الجماعات لأصل الولاء فى التعريف السابق الذي يقوم على حب الله ورسوله واتباع أوامره ونصرة دين الله، الذي تتخذه تلك الجماعات شعارًا لها، فيأتى على رأسها عدم اتباع أوامر الله تعالى فى النهى عن الفرقة والتحزب، فلم يأمر الإسلام بإنشاء الجماعات المختلفة؛ بل حذر منها ونهى عنها.
قال تعالى: (واعتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَميعًا ولا تَفَرَّقُوا)، وقال: (ولاَ تَكُونُوا كالَّذينَ تفَرَّقوا واخْتلَفُوا مِن بَعدِ مَا جاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وأُولائِكَ لهُمْ عَذابٌ عظيمٌ) {آل عمران: الآيات 103-105}.
وقال تعالى: (إنّ الَّذينَ فرَّقُوا دِينَهُم وكانُوا شِيعًا لسْتَ منْهُم في شيْء) {الأنعام: 159}.
وثبَت عن النَبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض".

والنصوص الدالة على مخالفة هذه الجماعات والفرق لنصوص الشرع في اتخاذ جماعة أو فرقة أكثر من أن تحصى من الكتاب والسنة، وقد يقول قائلهم إن جماعتهم هي الجماعة الشرعية، وغيرها باطل، وإن الدول التي نشأت فيها، لم تقم على أساس شرعي، وهو الخطأ الثانى أو المرتكز الثانى لتلك الجماعات التى اعتبرت أنها حلت محل الدولة، وكان ذلك منطلقا لسلسلة أخرى من المخالفات، التي كان من نتائجها إراقة الدماء فى كل مكان بالعالم الإسلامى.
عن عوف بن مالك – رضي الله عنه – عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: « خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويُصَلُّون عليكم، وتُصَلُّون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم»، قيل" يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف؟، فقال: « لا ما أقاموا فيكم الصلاة ، وإذا رأيتم من وُلاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يدا من طاعة».
إذن فقد وقعت الجماعات الإرهابية في مخالفات جسيمة لعقيدة الولاء التى يجعلونها مرتكزهم الأساسى، فلما كان إنشاء الجماعة أمرًا منهيًا عنه فى الإسلام، فالبتبعية فكل شىء بنى على ذلك يطوله البطلان، ومن ذلك تنصيب أمير للجماعة، والبيعة، وما يتبعها من لوازم الطاعة، ونحوها.

ثانيا البراء:
اتفق العلماء على أن تعريف البراء هو: (بُغْضُ الطواغيت التي تُعبَدُ من دون الله تعالى من الأصنام الماديّة والمعنويّة: كالأهواء والآراء، وبُغْضُ الكفر بجميع ملله وأتباعِه الكافرين، ومعاداة ذلك كُلِّه).
ولمناقشة هذا التعريف وتطبيقه على حال الجماعات الإرهابية، نبدأ من مصطلح الطاغوت، فالطاغوت شرعًا هو كل ما له الطاعة غير الله تعالى، إذن فلا أحد يطاع لذاته، إلا الله تعالى، وهنا وقفة مهمة مع الطاعة فى الجماعة هل تكون الطاعة هنا لله أم لأوامر الأمير، وتعاليم الجماعة؟.
بالطبع الطاعة هنا للأمير، وهل لأمير الجماعة طاعة فى الإسلام؟ بالطبع الإجابة (لا)، لأن الجماعة في أصل تأسيسها عمل مخالف للإسلام وما بني عليه بعد ذلك يعتبر باطلًا، لأن النصوص الشرعية جميعها لا توجب الطاعة في غير معصية الله إلا للحاكم المتمكن، وليس لأمير جماعة من الجماعات المتعددة، وبالتالى فقد تحول أمير الجماعة فى هذه الحالة إلى "طاغوت" لأنه يحكم بداءة بغير سند شرعى.
كما أن الثابت في كل الجماعات التي أنشئت على أساس باطل، أنها لا تُحكم إلا بالأهواء والآراء التي عطلت نصوص الشرع وحرفتها عن مواضعها، بتأويلات باطلة، وأهمها إنزال أحكام الدولة على الجماعة واحتلال محلها، وهو العامل المشترك بين كل الجماعات التكفيرية والإرهابية.

كما توسع الجماعات الإرهابية من دائرة التكفير لتمتد إلى جميع المسلمين غير المنتمين لها، فهم يكفرون الحكام والجيوش والمسئولين والرعية التى تقبل بهم، وهو أيضًا عامل مشترك بين كل الجماعات التكفيرية، وبالتالى فإن مسألة بُغض الكافرين لديهم، قد شوهتها التأويلات الباطلة التى جعلت طائفة من المسلمين إن لم يكن كل المسلمين غير المنتمين لها في ذمرة الكافرين الذين تشملهم آيات البراء.

حقيقة الولاء والبراء
وحقيقة الولاء والبراء أنها عقيدة ثابتة لدى المسلمين، وتشمل تحقيق معنى كلمة الإخلاص: (لا إله إلا الله)، التي جاءت بأسلوب الاستثناء فلا محبوب لذاته إلا الله تعالى، ولا طاعة مطلقة إلا لله تعالى، ولا خوف ولا رجاء ولا توكل إلا على الله، وبها تكون جميع أفعال العباد من الطاعات موجهة لله تعالى، ويكون العبد رافضًا رفضًا يقينيًا لما يخالف ما يرضى الله تعالى ويؤذي المسلمين، محافظا على حقوق الآخر التي حفظتها كلمة التوحيد، وهى بذلك تحقق شخصية المسلم الذى يحلق في سماء الحرية دون التقيد بقيود بشرية، وهو ما يميز المسلم عن غيره، وفي تحقيق عقيدة الولاء والبراء، يأتمر المسلمون فقط بأمر الله وحده الذى حدد ضوابط التعايش بين المسلمين وغيرهم من أصحاب العقائد الأخرى، تلك الضوابط التي تضمن الأمن والأمان والحياة المسالمة المطمئنة لكل ما ومن يقع داخل الدول الإسلامية، وليس بهذه الصورة الدموية المنفرة التي تتبناها الجماعات المسلحة التي اتخذت من عقيدة الولاء والبراء سبيلا لأعمال القتل والتخريب التي طالت الحجر والبشر.