رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«أطلس الخفاء» لمنصورة عزالدين.. العزلة كقرار جلاد الذات وضحيتها معًا

خلال قراءة رواية «أطلس الخفاء» للكاتبة منصورة عزالدين، الصادرة حديثًا عن دار الشروق، انشغلت بمدى أصالة رغبة مراد، بطل الرواية، فى العزلة. من أين بدأت؟ هل تتعلق بفترة الكهولة حين أصبح العالم الخارجى بلا معنى؟ أم أن تكوينًا بيولوجيًا ونفسيًا له دور فى هذا الأمر؟ 

ثمة إشارة وحيدة لأنه كان فاقد القدرة على التركيز فى صباه حين كانت الجدة خديجة تحاول أن تحفظه القرآن. مؤشر على صعوبات فى التعلم، أو إشارة لضعف القدرات الذهنية. لكن لم تأت مؤشرات أخرى لتأكيد الفرضية. بل إنه حفظ القرآن بحماس حين وعدته الجدة بأن تزوجه لهناء ابنة الشيخ، التى كان مغرمًا بها.

المهم؛ وأيًا كانت درجة أصالة رغبة مراد فى العزلة، فقد غدت تمثل أزمة وجودية فى اللحظة التى تلقى فيها الرد النهائى من إدارة العمل وأصبح لا مفر أمامه من الاستسلام للتقاعد. وهنا يواجه شبحًا كان يؤجل مواجهته لسنوات، وهو شبح التبطل، إذ سيحتاج طاقة كبيرة لمواجهة الزمن فى الفراغ التام الذى يعيشه بسبب العزلة التى يسوّر بها كل حدود حياته، فيقرر تدوين إشراقاته أو تجلياته أو استبصاراته. 

استبصارات أو تجليات تأتى كمحاولة لمقاومة مخاتلة الذاكرة ومكرها وضعفها، واستعادة لوجود شخصيات كادت تسقط فى قبو الزمن، مثل الجدة خديجة، بسبب فقدانها الذاكرة فى نهاية عمرها. الشيخة خديجة التى كانت تتولى مهام تحفيظ القرآن لأطفال القرية، وله أيضًا، التى فقدت لقب شيخة منذ فقدانها ذاكرتها وهويتها بالتالى. 

تتتابع التجليات فى نصوص مكثفة كما لو أنها، فنيًا وسرديًا، متتالية قصصية، بينما على مستوى المضمون، تمثل استشرافات تنتمى للرؤى، ولكن رافدها جميعًا الماضى، الجدة والأم والأخت: ليلى التى اختفت من حياة العائلة، لأنها قررت أن تتزوج من تحبه على خلاف ما أرادته العائلة، و«وردة»؛ الفتاة التى أغرم بها مراد فى صباه، ولكنه لم يمتلك قوة أخته فى الارتباط بمن يحب، بل اكتفى بالسخط والغضب من أهله لرفضهم زواجه من بنت تسكن فى «بيت العبد»، وهرب من بيت أهله لعام كامل، ليفقد وردة للأبد، ولا يجدها إلا فى الرؤى. 

الماضى فى الرؤى لا يأتى فقط من ذاكرة تتعلق بالماضى الذى يعرفه، بل بماضٍ يخص تاريخ البشرية، ماضى الوجود نفسه؛ كأن يرى العالم فى زمن الطوفان، ولكنه لا يعايشه كغريق، بل حى مع جدته يتنفسان تحت الماء، ويريان تفاصيل ومعالم للعالم الغريق، كأنها جزء من واقع يعيشانه دون أن يكونا ضحية للغرق!. 

استبصارات لعالم خفى، تمضى الجدة خديجة فى أحدها فى سيرها كما يراها معه فى الرؤى، بمنطق أن ما لا يبدى لكم لا يجب أن تطلعوا عليه، إيمانًا بستر الله الخفى. 

اغتنمت الكاتبة الإيقاع الصارم للنص؛ لدعم التفاصيل التى يتطلبها استدعاء كهل يرفض حاضره ويتشبث بماضٍ جميل. تفاصيل لروائح عطرية وزهرية وأشجار ونباتات وزهور، ومعمار وأبنية، ووجوه بعضها لأصدقاء طفولة، وبعضها لمن لا يعرفهم، وحدائق وجنان من كروم ونخيل، ومذاقات لأطعمة، بعضها ارتبط به مراد مدى حياته، وبعضه بقى كذكرى غائمة، أو كمذاق لا يتكرر فى الحياة إلا مرة واحدة فقط. 

لكن الهاجس الذى يسيطر على العوالم الثلاثة المتمثلة أولًا فى واقع مراد الراهن، وتاليًا فى ماضيه البعيد، ثم فى الاستبصارات، يتعلق بأزمة الوجود. بمراقبة مراد للعالم الذى يمضى فيه البشر وهم مستلبون، لا يعرفون ما ينبغى أن يفعلوه فى مواجهة الزمن.

هو نفسه فور التقاعد يراوغ ذاته ويذهب للحدائق والمتنزهات، أو يقرر أن يتناول الطعام فى مطعم، ثم يدرك الحقيقة التى يعرفها جيدًا، إنه لم يخلق إلا للعزلة. 

ربما فى هذا الإطار يمكن أن يعاد تفسير وجوده كله؛ إذ تخلى عن وردة لأنه يفضل العزلة فى أعماقه، وفشل زواجه لأنه لا يستطيع أن يعيش طويلًا مع شخص آخر، ولهذا أصر على عدم الإنجاب، فقررت الزوجة أن تعيش حياة جديدة مع شخص يتيح لها أن تصبح أمًا. يرتاح لغياب ابن عمه بعد فشل فكرة زواج الأخير من صاحبة البيت الذى يسكن به، ويرتاح لعدم اضطراره الذهاب إلى الإسكندرية لزيارة ابن العم، رغم أن الإسكندرية بالنسبة له هى مدينة العالم!.

العزلة، إذن، وفقًا لسيرة مراد، ليست أبدًا سيئة للمنعزل، بل هى من المؤكد تمثل جانبًا يسعد به. وقد أحالتنى شخصية مراد إلى فقرة كانت الشاعرة نوال العلى قد دونتها على النحو التالى:

«ثمة من يعيش معظم حياته منفردًا، السنوات الجيدة، بالنسبة للمنفرد، هى أن يتمتَّع بشىء ‏من العافية والقدرة على العمل وتصريف معيشته دون الحاجة إلى إنسان آخر».

لكن هل تظل سنوات المنعزل كلها سعيدة؟ 

أعود لنص نوال العلى: «المنعزل لا ‏ينعزل من تلقاء نفسه، ثمة أمور تحدث، ثمة قوة قديمة، عادة ما تأتى من الماضى، تدفعه ‏إلى قبوٍ يسقط فيه، وقد يطول سقوطه لسنوات. أصوات من الخارج تصله كأنها رصاصات ‏بعيدة ومتقطعة (..) فى العيش الانفرادى، لا شىء سوى أن تفكر، أنت ‏تكبر مثل نبتة تكرهها الشمس، نبتة تنمو بين الجدران، أنت لم تحس بجسدك منذ زمن». 

هذه فقرة دالة جدًا فى وصف إحساس المنعزل، وهى تأتى كما لو أنها تصف هنا حالة مراد بالفعل، خصوصًا بعد أن فقد عمله. فقد الجانب الجيد فى وجوده كمنعزل مشغول. وغدا الآن منعزلًا لا حاضر له، ولا يوجد ما يشغله. ولهذا ربما تأتى التفاصيل التى يهتم بها مراد كما لو أنها أمور لها شأن ضخم، خصوصًا حين يفكر فى الطعام أو يتذكر وجبة تطير إليه على بساط الذاكرة ولا تزيد على ساندوتش طعمية فى عيش فينو.

«أطلس الخفاء» نص مكثف، صارم فى بناه، ومغامر أيضًا، ويتراوح على الحدود بين الواقع والحلم، يفتح بابًا للأسئلة عن العزلة والفردية ومعنى الوجود وطبيعة الذاكرة فى محاولتها لمواجهة المكر الذاتى لفكرة المحو. ويمثل بلا شك إضافة جديدة لمسيرة سرد منصورة عزالدين الملفتة، وللسرد العربى بطبيعة الحال.