رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ملفات الحرب

 

الحروب قد تكون أحيانًا فرصة تذكرنا أن شيئًا بشعًا يحدث، وأن السياسة دون قلب، وأن العالم يتصرف دومًا كعادته، وأننا غاضبون جراء ذلك، لكن لا نملك قوة للتغيير، وأننا ملزمون بأن نقول الحقيقة ولو مرة فى حياتنا، وأن المحللين- وأنا منهم- يخطئون أكثر من مرة فى تقديراتهم، بحيث أصبح من الصعب التنبؤ.

الحرب تفتح الملفات كلها دفعة واحدة، وهؤلاء الذين كانوا على هامش النيران قد تجدهم فى لحظة فى مركز المشهد، ولا أحد بإمكانه أن يتوقع فى أى موقع سيكون.

الإعلان الروسى باستقلال جمهوريتى دونيتسك ولوجانسك وضمهما إلى الأراضى الروسية يذكرنا برغبة الصين فى غزو تايوان وضمها، روسيا تعتبر أوكرانيا أرضًا سوفيتية، والصين تعتبر تايوان أرضًا صينية، كلاهما كانا ضمن أراضيهما فى ممالك سابقة فى التاريخ، لكن حدث انفصال وتفكك، وهما لا تعترفان بأن ذلك قد حدث.

يوغوسلافيا تفككت إلى دول البلقان، ولا تزال هناك دول تهاجم جاراتها، لأن شبح اليوغوسلاف يخيم على الأجواء.

الحديث عن الانفصال بشكل عام يعيد إلى الأذهان انفصالات أخرى حدثت فى أماكن متفرقة فى العالم، نتذكر انفصال إقليم كردستان عن العراق، وانفصال كوسوفو عن صربيا، وأزمة إقليم كاتالونيا فى إسبانيا.

والغزو الروسى لدواع تتعلق بحماية الأمن القومى، حسب وصفه، يعيد إلى جدول الأعمال العمليات العسكرية المتفرقة فى العالم التى اتخذت هذه الذرائع، وأحيانًا يكون من الصعب على الجمهور العام إيجاد فوارق، فالغزو بالنسبة للجمهور هو غزو، والانفصال هو انفصال، والاستقلال هو استقلال، حتى لو كانت بيئة العمل مختلفة. هذا لا يهم، الجمهور يحب العناوين الرئيسية، أما المحللون فيهتمون بالخلفيات والأيديولوجيات وأنماط العمل، والآليات والتداعيات، وهذا لا يشغل الجمهور كثيرًا؛ المهم هو النتيجة: انفصال هنا أو استقلال هناك، لا يهم ما هو أبعد من ذلك.

فتح الملفات بمحاذاة الحرب الروسية الأوكرانية طال إسرائيل «التى حاولت أن تكون بعيدة عن مركز الضوء»، الغزو الروسى يذكر العالم والجمهور العربى بشكل خاص بالعمليات الإسرائيلية.

إسرائيل غزت لبنان ذات مرة بسبب أسباب تتعلق بالأمن القومى من جانبها، الذريعة التى تستخدمها روسيا الآن.

إسرائيل بالنسبة لها غزة والضفة وجنوب لبنان والجولان مناطق أمن قومى، لديها مبررات جاهزة لغزوها وغير مسموح لها بالتماهى مع إيران، وروسيا أيضًا ترى فى دول شرق أوروبا، وتحديدًا أوكرانيا وجورجيا ودول البلطيق «استونيا وليتوانيا ولاتفيا» أمنها القومى، وغير مسموح لها بالتماهى مع الناتو ودول أوروبا الغربية والولايات المتحدة. إسرائيل تشعر بأنها مهددة من إيران، وروسيا مهددة من الناتو «مع حفظ الفوارق بين إيران والغرب».

إسرائيل فى أدبياتها ترى أن هناك حقوقًا لأجدادها فى الضفة، وفى الأدبيات السوفيتية هناك حقوق مشابهة لروسيا فى أوكرانيا، روسيا ترى الأوكرانيين نازيين جددًا يريدون تدميرها، وإسرائيل ترى الفلسطينيين إرهابيين يريدون تدميرها، روسيا تستخف بقرارات المجتمع الدولى، وإسرائيل تهكمت كثيرًا على قراراته، وقالت إنها «ليست ذات صلة».

طوال حروب التاريخ كان للعالم دومًا مبررات متشابهة، الأقوال والخطابات وقت الحروب تشعر أنها جاءت من كتاب التشغيل ذاته، وذريعة الحرب «الحفاظ على الأمن القومى» سجلت أرقامًا قياسية فى الاستخدام، كنت أخبرتكم أعلاه أن العالم دومًا يتصرف كعادته! لكن حكوماته لا تعترف بذلك. 

الدول فى الحروب دائمًا تتحدث بأن شيئًا فريدًا لم يتكرر يحدث، علمنا العالم أن النظام العالمى هو أمر مرن جدًا.