رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

النصب باسم دين الله

الوقائع التى سأتحدث عنها هنا فيها جزء معلن يعرفه الرأى العام، وجزء غير معلن أعرف بعض تفاصيله، وجزء غير معلن لا يعلم تفاصيله إلا ذوو العزم من الجهات المسئولة عن المعلومات فى مصر.. وللأسف الشديد فإن ما هو معلن وما هو غير معلن يدور حول محور واحد هو النصب باسم دين الله سبحانه وتعالى، واستغلال تدين المصريين، ورغبتهم فى فعل الخير، وإيتاء الزكاة وإخراج الصدقات فى تكوين ثروات حرام بالملايين والمليارات أيضًا.. وما سأكتبه فى السطور التالية هو فصل من كتاب طويل يمكن تسميته «النصب على المصريين باسم الدين» وهو كتاب تنوعت فصوله ما بين نصابين انتحلوا صفة دعاة وأصبحوا من أصحاب المليارات، وشركات تخصصت فى تسليع شعائر الحج وتحويلها لرحلات ترفيه وعلاقات مقابل مئات الألوف، وقنوات فضائية تم تمويلها بالمليارات من خارج الحدود لنشر مذاهب فقهية غير مصرية بعينها، ونصابين خرجوا يبيعون للناس بضائع فاسدة متبوعة بكلمة «إسلامى» فاشترى منهم الطيبون بضائع فاسدة مثل «الاقتصاد الإسلامى» و«الجنس الإسلامى» و«الطب الإسلامى» و«الريجيم الإسلامى»!!! وضع فى القائمة ما شئت من بضائع، فالمصريون بدوا فى لحظة ما وكأنهم فقدوا عقولهم وقدرتهم على التفكير السليم وانقادوا لكل أنواع النصابين ما داموا يتظاهرون بالتدين، وبالحرص على الدين، حتى لو كانت كل الشواهد تقول إنهم أبعد ما يكونون عن هذا.. أما مجال النصب الذى سأتحدث عنه الآن فهو «المجتمع المدنى الإسلامى»، أو الجمعيات الخيرية التى يقيمها بعض النصابين ممن يدعون السلفية أو التدين بشكل عام ويصفون الجمعيات التى يؤسسونها لجمع التبرعات بأنها إسلامية.. أما وجه الفساد هنا فهو أن التبرعات التى يتم جمعها من المصريين لا تنفق فى المصارف التى يتم الإعلان عنها فيها، ولكن يتم الاستيلاء عليها لتدخل الحسابات الشخصية لأصحاب هذه المؤسسات ليتحولوا من أصحاب ملاليم لأصحاب ملايين، والحقيقة أننى حصلت على هذه المعلومات بعد أن كتبت مقالًا أنتقد فيه ظاهرة بدت لى غريبة وهى البرامج الدينية الإعلانية، حيث يظهر على الشاشة مذيع من مقدمى البرامج الدينية ومعه ضيف يقدم على أنه من علماء الأزهر أو دعاة الدين، لكنهما لا يتكلمان عن الصلاة أو الصيام أو أى وجه من أوجه عبادة الناس لله، هما يتحدثان عن ضرورة التبرع للجمعية التى تنتج البرنامج وتشترى وقتًا إعلانيًا لتعرضه، فإذا كان نشاط هذه الجمعية عن حفر الآبار باعتباره وجهًا من وجوه الخير، ظل ذلك العالم والمذيع يتحدثان عن عظمة حفر الآبار، وثواب حفر الآبار، وجمال حفر الآبار، والآيات التى تتحدث عن حفر الآبار، والأحاديث التى تؤكد على قصور الجنة المحجوزة لمن يتبرع فى حفر الآبار، ومع الأحاديث والآيات يرددان أرقام الحسابات البنكية والهواتف التى يمكن أن يتصل بها المشاهد إذا أراد أن يتبرع لهذه الجمعية التى تتخصص فى هذا المجال العجيب أو أن يحجز له مكانًا فى الجنة، وبعد نهاية الحلقة، أو فى نهاية الشهر، يتقاسم الجميع حصيلة تبرعات الطيبين، وراغبى دخول الجنة، فالقناة تحصل على حصة، والعالم الذى تحول إلى مندوب مبيعات للدين يحصل على حصة، والمذيع الذى تحول إلى «دلال» ينادى على بضاعة الحسنات والتبرعات يحصل على حصة، ولا تسألنى ما الذى يبقى بعد ذلك للهدف الأساسى الذى تبرع له الناس، هذا إذا افترضنا أن هناك هدفًا من الأساس، أو أن حفر الآبار هذا من الأولويات فى وقت تمد فيه الدولة شبكات المياه لكل قرى مصر وفق خطة منظمة.. والحقيقة أننى لم يكن لدىّ أى معلومات تفصيلية عن هذه الجمعيات والشبكات ولكننى ارتبت من استخدام الآيات والأحاديث للحصول على تبرعات فى برنامج إعلامى مدفوع، وبعد نشر المقال جاءنى اتصال من محام نعرف بعضنا من خلال العمل العام.. زارنى فى مكتبى ليروى لى قصة شخص يدعى أنه داعية سلفى، وهى قصة صعود كانت تصلح لأن يصوغها الأستاذ وحيد حامد، رحمه الله، كجزء ثان من فيلم «طيور الظلام»، والحقيقة أننى امتنعت عن النشر رغبة فى التحقق من صدق المعلومات التى وردتنى، ولم تعد القصة كلها إلى ذاكرتى إلا بعد أن قرأت خبرًا عن انحرافات فى مؤسسة تحمل اسم «سقيا الماء» ترتب عليها إيقاف الجمعية، وإصدار قرار بالقبض على رئيس مجلس إدارتها بتهمة اختلاس عشرين مليون جنيه من تبرعات المصريين بدلًا من استخدامها فى حفر الآبار.. كانت المعلومات التى حصلت عليها تفيد بتحول شخص يدعى السلفية من موظف فى إحدى القنوات السلفية لإمبراطور للمؤسسات التى تجمع التبرعات باسم الدين، وأنه خلال سنوات قليلة تمكن من تأسيس أربع مؤسسات خيرية تدعى أنها إسلامية وسلفية باسم زوجاته الأربع، حيث تترأس كل واحدة منهن مجلس إدارة جمعية من هذه الجمعيات التى تتخصص فى أعمال خيرية تشتق فكرتها من الاستخدامات المباشرة للصدقات فى القرن الأول الهجرى، فإحدى الجمعيات «التى تم التحفظ عليها» تختص بحفر الآبار وزرع النخيل! والمؤسسة الثانية تحمل اسم «ابنى مسجد» وتتستر وراء هدف نبيل هو بناء المساجد، وهناك مؤسسة تحمل اسمًا دينيًا عامًا هو «جنة الصابرين»، ومؤسسة أخرى تحمل اسم «اطمن معانا».. وكل هذه الجمعيات ترعى برامج إعلانية على القنوات السلفية والقنوات العامة، وتجمع التبرعات من المشاهدين تحت ستار أن الجمعيات التى تدعى السلفية أكثر وفاءً لحقوق الله، وأصحابها أكثر تقوى وإيمانًا من غيرهم.. إننى لا أتهم أحدًا بغير دليل، ولكننى أرى شبهة فى تصدى شخص واحد وزوجاته الأربع لإدارة خمس مؤسسات خيرية، وأرى أنه لو كان الدافع فعل الخير أو خدمة الناس لركزت هذه الأسرة جهودها فى جمعية خيرية واحدة، تخدم من خلالها الناس، إذا كان الهدف هو خدمة الناس، كما أننى أربأ بدين الله وبآياته أن تتحول لسلعة يتم الإعلان عنها والتدليل عليها على طريقة دلالات البيوت فى الزمن الماضى، وأن يفعل بعض العلماء ذلك مقابل نسبة من تبرعات المتبرعين، أما السبب الثالث والأهم فهو أننى أرى أننا يجب أن نحرر مفهوم العمل الخيرى من النصوص الثابتة وأن ننطلق به نحو مقاصد الشريعة، فالتنمية الآن تتم وفق خطة مركزية منظمة، وربما كان المجتمع يحتاج للتعليم المتطور أكثر من احتياجه لحفر الآبار فى الصحراء أو زرع النخيل إلى جوارها أو بناء مساجد فى مناطق لا تحتاج لمزيد من المساجد، فلم نعد فى زمن السفر بالخيل والبغال، حيث يعطش الناس وأبناء السبيل فيحفر أهل الخير الآبار لسقايتهم أو يزرعون لهم النخيل كى يقتاتوا من ثماره.. نحن الآن فى القرن الواحد والعشرين، عقب ثورة عظيمة أنهت عصر الاتجار بالدين، ولا نريد من يلتف على المصريين أو يستغل عواطفهم مرة أخرى.. كفى نصبًا باسم الدين أيها «الكافرون» بآيات الله ومقاصدها.