رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سعد الدين الشاذلي.. الكبرياء.. الذى لا يغيب!

الفريق سعد الدين
الفريق سعد الدين الشاذلي

«وبلدنا ع الترعة

بتغسل شعرها

جانا نهار/ مقدرش يدفع مهرها

يا هل ترى الليل الحزين؟

أبو النجوم الدبلانين

أبو الغناوى المجروحين

يقدر ينسيها الصباح»؟

لقد عاش سعد محمد الحسينى الشاذلى- اسم الشهرة سعد الدين الشاذلى- حياته الإنسانية المديدة، والعسكرية العظيمة، فى كبرياء، وصدق، وفداء، وموهبة- «الموهبة ليست حكرًا على الفنان أو الشاعر أو الروائى أو الصحفى»- عاش يحلم بالنهار! فجاءت حياته- مثل موال النهار- جادة، وحادة، وناجحة، ومتمردة، وصاخبة إلى حد الدهشة.

منذ ميلاده فى شهر أبريل ١٩٢٢ وحتى رحيله فى ١٠ نوفمبر ٢٠١١- أمس كانت ذكرى رحيله- وهو كما هو.. لم يغير أقواله، ولم يهجر أحلامه، ولم يُراجع أفكاره، ولم يُبدل ألوانه.. فاللون الأبيض ظل بداخله أبيض.. واللون الأسود ظل بداخله أسود «رجل لا يحب اللون الرمادىِّ» وبجوار ذلك كله كان يحب الانضباط، ويعشق العمل، ويقول الحق فى السر والعلن.. وبهذا الانضباط الصارم، والعمل الجاد، والموهبة العسكرية الفذة سار فى دروب الحياة منذ طفولته فى ريف دلتا مصر حتى وصل إلى منصب رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية «من ١٦ مايو ١٩٧١ وحتى ١٣ سبتمبر ١٩٧٣» ليعمل، ويفكر، ويخطط، ويدبر، وينفذ ما أطلق عليها خطة حرب التحرير «المآذن العالية»، التى حققنا بها العبور الكاسح لخط بارليف المنيع يوم ٦ أكتوبر العظيم.. ذلك اليوم وما بعده من أيام، التى قالت عنها جولدا مائير، رئيس وزراء إسرائيل: «إننى لا أحاول أن أصف كيف كانت تلك الأيام بالنسبة لى».. ثم أردفت قائلة: «يكفى أن أقول إننى لم أستطع أن أبكى حتى عندما انفردت بنفسى»!.. وعندما وقف أمامها موشى ديان، وزير الدفاع الإسرائيلى «حينذاك» عصر يوم ٧ أكتوبر وقال لها: «يجب أن نقوم بانسحاب فورى من أمام الجيش المصرى الذى عبر القناة»، ردت: «إلى هذه الدرجة يا ديان؟»، سكت برهة ثم قال: «إن استمرار مواجهة المصريين يحمل فى طياته ثمنًا باهظًا سندفعه من الأرواح البشرية»- وهذا جوهر خطة «المآذن العالية» التى وضعها الشاذلى- ردت جولدا وهى منهارة: «اسكت يا ديان.. لا تُسمعنى.. ولا تحدثنى عن هذا الثمن! هذا الثمن.. بمثابة سكين فى قلبى»!.. لقد استطاع سعد الشاذلى بموهبته العسكرية الفذة، وتفكيره العلمى المدروس، أن يغرس السكين فى قلب جولدا مائير ويقتل فيه الغرور والغطرسة والغباء!.. إنها الموهبة.. والكبرياء!

«ابنك يقولك يا بطل

هاتلى نهار

ابنك يقولك يا بطل 

هاتلى انتصار»

منذ البدايات بدأت ملامح الانضباط المصحوب بالكبرياء تظهر على تصرفات وأفعال الطفل سعد، «سمى بهذا الاسم تيمنًا باسم سعد زغلول»، وهو ما زال صغيرًا يلهو بجوار الجدران البعيدة، وبين الدروب الحزينة، فى شوارع ومزارع قريته «شبرا تنا مدينة بسيون»- تبعد عن القاهرة ١٢٣ كم- ومنذ أن كان عمره ١٠ سنوات عُرف بين أفراد أسرته، وأهل قريته، بالانضباط الشديد، والذكاء المبهر. 

ذات صباح قام من نومه «اليوم السابق لامتحان الشهادة الابتدائية» وارتدى ملابسه وحمل شنطته، وخرج من بيته بمفرده فى صمت.. بدأ يمشى فى طريقه نحو المدرسة التى تبعد عن القرية ٦ كم سيرًا على الأقدام، حتى وصل إلى بابها «الباب مغلق/ اليوم هو يوم الجمعة»، ثم عاد مرة أخرى فى طريقه مسرعًا إلى البيت، فى الطريق التقاه فلاح من أهل القرية وسأله: «يا سعد من أين قادم فى هذا الصباح؟» رد: «خرجت من البيت حتى أعرف طول المسافة وبالتالى الوقت الزمنى من قريتى إلى مدرستى بالضبط»! 

فسأله: ولماذا تفعل ذلك؟ رد: «حتى أصل فى موعدى ولا أتأخر عن موعد الامتحان غدًا».. نظر إليه الرجل من فوق حماره ثم نزل مبتسمًا وحمله فوق ذراعه وهو يقول: «ربنا يحميك يا سعد! وترفع رأسنا فى كل مكان».. إنه الانضباط.. والكبرياء!

«فدائى فدائى 

أهدى العروبة دمائى

وأموت أعيش 

مايهمنيش، وكفاية أشوف 

علم العروبة باقى»

فى صيف يوليو ١٩٤٠ تخرج الضابط سعد الشاذلى برتبة ملازم فى سلاح المشاة، وكان أصغر طالب فى دفعته، وتم انتدابه عام ١٩٤٣ للخدمة فى الحرس الملكى لكفاءته، وتميزه، وإمكاناته العسكرية الواضحة، وبعد ٥ سنوات وقعت نكبة ١٩٤٨ وتحركت الجيوش العربية لدعم الشعب الفلسطينى، ورغم أنه كان يخدم بعيدًا عن مسرح العمليات، إلا أنه دخل على قائده ذات صباح وقال له: «يا أفندم أُريد السفر إلى الجبهة للمشاركة فى الحرب».

- رد القائد: «يا ابنى إنت مجنون؟! فيه حد يروح للحرب برجليه؟». 

- «أنا يا أفندم»! رد القائد: «اتفضل يا حضرة الضابط على خدمتك»!.. وفى صباح اليوم التالى جمع القائد ضباط الحرس وقال لهم: «جلالة الملك يقول لكم من يريد منكم التطوع للمشاركة فى الحرب.. يتفضل.. أهلا وسهلًا.. الباب مفتوح»! وبذلك شارك الشاذلى- دون قصد- فى أن يُجبر البلاط الملكى رغم بعض/ أو كل فساده فى أن يُرسل سرية من ضباطه إلى فلسطين.. إنها الكرامة.. والكبرياء!

«حلوة بلادى السمرا

بلادى الحرة.. بلادى

وأنا ع الربابة بغنى

غنوة الحرية»

فى ذلك العام وصل الضابط الشاذلى إلى مدينة ساحلية تبعد عن العاصمة كنشاسا بحوالى ١٢٠٠ «كان برتبة عقيد» كقائد عام للقوات العربية التابعة للأمم المتحدة، والتى ضمت قوات من «مصر والسودان وسوريا والعراق والجزائر» لتشارك فى تثبيت جلاء القوات البلجيكية بعد التحرير فى ظل سيطرة حكومة يرأسها لومومبا.. بعد أسابيع من وصوله حدث انقلاب أدى إلى سقوط لومومبا، الذى حاول الهرب لكنه اعتُقل وقُتل! بعد ذلك شن قادة الانقلاب هجومًا ضاريًا على مصر وجمال عبدالناصر الذى كان فى ذلك الوقت يُدعم حركات التحرر فى القارة.. هذا الهجوم استفز الشاذلى فقرر بصورة منفردة مواجهته بتسريب ٢٠٠ جندى مصرى إلى قلب العاصمة كينشاسا، وعندما شعر قادة الانقلاب بذلك قاموا بإبلاغ قيادة الأمم المتحدة ليتم استدعاؤه للقيادة فى كنشاسا: «يا جنرال أنت هنا تعمل تحت مظلة الأمم المتحدة»! 

رد: «هذا أعرفه»!

- وهذا معناه تنسى إنك مصرى! 

- رد: «هذا ما لا أعرفه ولن أعرفه»! ثم أردف قائلًا: «هؤلاء الانقلابيون يهاجمون مصر والرئيس.. وهذا أمر لن أسمح به»! 

- يا جنرال اسحب قواتك! رد: لن أسحبها.. واشتعلت الأزمة حتى تدخل فيها سفير مصر هناك، مراد غالب! وبعد أيام وصل العميد أحمد إسماعيل- المشير بعد ذلك وقائد القوات المسلحة فى حرب أكتوبر- فى مهمة عمل مختلفة لكنه حاول فرض رأيه على الشاذلى بحكم الأقدمية العسكرية، فرفض وانتهى النقاش بينهما بقول الشاذلى: «أنت هنا فى مهمة غير التى أقوم بها.. وليس لك أن تصدر لى أية أوامر»، ودارت اتصالات ما بين قيادة الأمم المتحدة والقاهرة التى أصدرت له الأوامر بالرجوع للقاهرة بعدما استطاع تأمين وتهريب أسرة لومومبا إلى القاهرة، وإجبار قادة الانقلاب على الصمت وعدم الهجوم على مصر أو الرئيس عبدالناصر.. إنها الكفاءة.. والكبرياء!

«مدد.. مدد.. شدى حيلك يا بلد

إن كان فى أرضك مات شهيد فيه ألف غيره بيتولَد»

 فى صباح يوم الخامس من يونيو ١٩٦٧ كان قادة الجيوش وبينهم الشاذلى قد وصلوا إلى قاعدة فايد العسكرية فى انتظار وصول القائد العام المشير عبدالحكيم عامر. الساعة الآن الثامنة صباحًا. مرت عدة دقائق ولم يصل المشير.. بعد دقائق أخرى سُمع دوى قنابل تلقى على المطار.. بسرعة تحرك القادة المجتمعون ليعرفوا النبأ. والنبأ كان هجومًا مباغتًا من الطيران الإسرائيلى على جميع المطارات المصرية. الحرب بدأت.. والمشير فى الجو.. والقادة فى المطار! المشير عاد من حيث جاء.. والقادة تحركوا إلى مواقعهم. لكن الشاذلى- وصل لرتبة لواء حينذاك- تتمركز قواته فى قلب سيناء على بعد ٥ كم من خطوط العدو. الآن انقطعت كل الاتصالات والمواصلات، لكنه أصر على العودة إلى سيناء. ومن أجل ذلك حصل على سيارة جيب واستقلها لمدة ٥ ساعات بين طرق جبلية وعرة حتى وصل إلى موقعه مع آخر ضوء. فى صباح اليوم التالى.. الطيران الإسرائيلى يمرح فى السماء وقواته فى العراء عرضة للقصف الجوى. عندما جاء الليل وحلّ الظلام.. قرر من تلقاء نفسه أن يحرك قواته إلى داخل الأراضى الفلسطينية التى يحتلها العدو. وبالفعل وصل وتمركز بين جبلين يصعب من خلالهما ضرب قواته. مر اليومان الأول والثانى وفى عصر اليوم الثالث «٨ أكتوبر» تلقى إشارة من القيادة العامة بالقاهرة تقول: «اسحب قواتك.. وعد إلى غرب القناة»، بعد دقائق وضع الخطة المناسبة التى تجعله يخترق سيناء من الشمال الشرقى إلى الجنوب ويصل تحت قصف الطيران الإسرائيلى المستمر «مسافة ٢٠٠ كم» دون أن يحدث بها خسائر سوى ١٥٪، وهذا بالمقاييس العسكرية بطولة وإنجاز غير مسبوق.. إنها الجرأة.. والكبرياء!   

«الله أكبر/ بسم الله

أذن وكبر/ بسم الله

نصرة لبلدنا/ بسم الله

بإيدين ولدنا/ بسم الله»

فى يوم ٦ أكتوبر ١٩٧٣ عند الساعة «الثانية وخمس دقائق ظهرًا»، شن الجيشان المصرى والسورى هجومًا على القوات الإسرائيلية، بطول الجبهتين، ونفذ الجيش المصرى خطة «المآذن العالية» التى وضعها الفريق الشاذلى بنجاح غير متوقع، وبحلول الساعة الثانية من صباح يوم الأحد ٧ أكتوبر ١٩٧٣، حققت القوات نجاحًا حاسمًا فى معركة القناة، وعبرت أصعب مانع مائى فى العالم وانتهت أسطورة خط بارليف. وبعد مرور ٦٧ يومًا تقريبًا من بدء القتال قرر الرئيس السادات إقالته بعدما اختلف معه «من ناحية التخطيط العسكرى» فى أسلوب معالجة الثغرة ورفضه- أى الرئيس السادات- الخطة التى وضعها الشاذلى للقضاء عليها يوم ١٦ أكتوبر. وفى يوم ١٣ ديسمبر قام المشير أحمد إسماعيل بالاتصال به ودعاه إلى لقاء عاجل وقال له: «الرئيس قرر تعيينك سفيرًا لمصر فى لندن»، رد بحسم: «أرفض هذا التعيين»

- هذه مكافأة.. لماذا ترفض؟ قال: «لو كانت عقابًا.. فالأفضل أن أُعاقب فى بلدى وإن كانت مكافأة فمن حقى رفضها»، واستمر رفضه عدة أسابيع حتى أقنعه السادات بحيلة- يراها الشاذلى خديعة- مما جعله يوافق فى نهاية الأمر ويسافر للعمل سفيرًا فى لندن فى ١٣ مايو ١٩٧٤، ثم نُقل إلى لشبونة عاصمة البرتغال فى ١٩٧٦. وبعد إعلان اتفاقية كامب ديفيد رفضها واستقال من الخارجية. وذهب كلاجئ سياسى- اختار الجزائر رافضًا كل العروض التى انهالت عليه من مدن عربية ودولية كثيرة- ليعيش فيها ١٤ سنة، عاد بعدها للقاهرة فى مارس عام ١٩٩٣. فى المطار تم القبض عليه، وترحيله للسجن الحريى بسبب كتابه «مذكرات حرب أكتوبر»- صدر ١٩٧٨- ردًَا على كتاب السادات «البحث عن الذات» الذى اتهم فيه السادات باتخاذ قرارات خاطئة رغمًا عن جميع النصائح من المحيطين به من العسكريين، وتدخله المستمر فى الخطط أثناء سير العمليات على الجبهة، أدت إلى التسبب فى الثغرة، كما اتهمه بالتنازل عن النصر والموافقة على سحب أغلب القوات إلى غرب القناة فى مفاوضات فض الاشتباك. وهو الكتاب الذى أدى إلى محاكمته غيابيًا فى عهد مبارك عام ١٩٨٣ بتهمة إفشاء أسرار عسكرية، وحُكم عليه بالسجن ثلاث سنوات، ووضعت أملاكه تحت الحراسة، وتجريده من حقوقه السياسية. 

فى السجن طُلب منه تقديم التماس لرئيس الجمهورية «مبارك» للعفو عنه، لكنه رفض ذلك. وبعد مرور سنة ونصف السنة قضاها فى السجن الحربى صدر عفو شامل شمله ووافق عليه، ليخرج من السجن دون أن يقدم أى التماس! إنها العزة.. والكبرياء.

«خلى السلاح صاحى

لو نامت الدنيا

صاحى مع سلاحى»

بعد خروجه من السجن عاد إلى قريته، وعاش بعيدًا عن العمل العام، وظل هو القائد الوحيد الذى لم يُكرّم فى حياته، وتم تجاهله فى الاحتفاليات التى أقامها الرئيس السادات لقادة الحرب «منها تكريم مجلس الشعب عام ١٩٧٤»، وكذلك عانى من التهميش فى عصر مبارك كله، ونُزعت صورته من بانوراما حرب أكتوبر «وضعت صورة مبارك بدلًا منه فى بعض الصور»، ناهيك عن أغانى «أول ضربة جوية فتحت باب الحرية/ وكفر مصيلحة/ يا كفر مصيلحة»، وكذلك تم إيقاف معاشه، ليعيش حياته الأخيرة على إيرادات قطعة أرض ورثها عن أبيه. وفى يوم الخميس ١٠ فبراير ٢٠١١ رحل ذلك الجنرال المخلص، الموهوب، فى نفس اليوم الذى «خُلع أو تنحى» فيه مبارك عن الحكم.. وقبل رحيله قال بهدوء: «أنا لا أخاف الموت.. وفخور بما قدمته للقوات المسلحة وللوطن وللناس فى بلادى».. وبعد أسبوعين من رحيله أعاد المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى أسرته نجمة سيناء، وتم تكريمه بإطلاق اسمه على بعض الشوارع والميادين، بعدما دفع ثمن موهبته وعبقريته ورفضه المطلق للون الرمادى.

قليلة هى الرجال فى هذا الزمان- وفى كل زمان- التى لا تحب اللون الرمادى.. وكثيرة هى الرجال فى هذا الزمان- وكل زمان- التى دفعت وتدفع الكثير من حياتها ومستقبلها وأفكارها، وأحلامها بسبب موهبتها، ومنهم الفريق سعد الدين الشاذلى.. لتبقى السيرة.. وتستمر المسيرة.. «إنها سيرة.. كبرياء لا يغيب».