رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نقش على بازلت

حاتم السروى
حاتم السروى

سور حديدى سميك يحيط بكتلة حجرية من البازلت الأسود، وعلى الكتلة نقش صنعته يد بشرية، والناس يتوافدون كل يوم فيمسحون الحجر بأيديهم التى تصل إلى الحجر من فرجات السور فى شىء من العناء، ثم يمسحون السور نفسه تبركًا!.

زحام شديد لم يفلح فى صد أيمن طالب الثانوية العامة عن رغبته فى لمس الحجر، ومضى بين الأجساد المتلاصقة لا تثنيه رائحة العرق ولا حرارة يونيو اللافحة، وأخيرًا وصل إلى «النور والبركة» ومسح بكلتا يديه، بل واصل المسح بكمه، ودعا مبتهلًا أن يتم نجاحه فى امتحان الغد، وأن يأتى سهلًا؛ لعله يتخلص من عذاب الثانوية العامة.

ما سر هذا الحجر؟ وما النقش الذى صنعته يد بشر فقدسه بشر آخرون؟ ما هذا اللغز؟ كان أيمن يتساءل ذات يوم ويبدى دهشته لأبيه من فعل الناس بقطعة من البازلت لا حياة فيها، ألم يحرم الدين عبادة الأصنام؟ وجاءت إجابة والده فى شىء من الزجر والقسوة، وبين عبارات كثيرة أفلتت من فهمه، استطاع أن يمسك بعض الكلمات التى أفهمته أن على الحجر آثار أقدام بشرية لكنها مباركة.

لم يصدق، لم يصدق أبدًا، لكنه تظاهر أمام نفسه بالتسليم والشك يعتمل فى داخله، وحين أصبح الامتحان قاب قوسين وجد نفسه دون قصد يذهب إلى حيث الحجر، إنها مادة صعبة ومعلمها مُعَقَّد يكره الطلاب ويزيد من بغضهم لها، والحجر قيل فيه الكثير، ما الذى يمنع إذن أن يجرب؟؟

ولكن كيف لهذا النقش الذى يبدو أن يد شخص ما هى التى أوجدته أن يكون آثار غوص أقدام مباركة لان لها الحجر، كما لانت لصاحبها قلوب البشر؟ حدث نفسه أن الأمر لا يستدعى كل هذا التهويل، وأن المكان لا روحانية فيه، وأن المتبركين كلهم من بسطاء القوم الذين لم يصيبوا تعليمًا مناسبًا.. ومع هذا تمسح بالحجر وبالسور، وعاد إلى بيته فصلى ركعتين، ثم قضى ليلته يحفظ تلك المادة التى استنزفت طاقته وأصابته بالغم..

هل جاءت الورقة؟ هل وقف المراقب على رأسه ليمنعه من الغش؟ هل أخذ يقضم أظافره تارةً وينظر إلى زملائه أخرى والمراقب يبتسم فى سخريةٍ وشماتة؟ كل هذا حدث، وحدث أيضًا أنه غش الإجابة من زملائه رغم يقظة المراقب!

المراقب ملول، وليس وحده الذى يشعر بالملل، فيخرج قليلًا؛ ليلتقط أنفاسه أو يثرثر مع زميلٍ له، إن المراقبين فى مدرسته يفعلون هذا فى كل امتحان، وربما فعلوا ذلك عمدًا إذا بدا أن أغلب الطلاب لا يحيرون جوابًا لصعوبة الامتحان، والمراقب الذى نظر إلى أيمن فى شماتة قرر أن يتخلص من طبعه المؤذى حين رأى أن كل الطلبة ينظرون إلى بعضهم وفى عيونهم سؤال: ما العمل؟ كيف السبيل؟ مادة صعبة واختبار لعين تنبئ عن عبقرية الشر التى صنعته.

غش أيمن مرغمًا، وأدرك أنه سينجح فى المادة حين راجع الإجابة مع زملائه ونظر فى الكتاب، وحين عاد إلى المنزل نظر إلى أبيه بابتسامةٍ مصطنعة وأخبره بأن بركة الحجر جعلت إلهامًا خفيًا يهبط عليه أثناء الإجابة، وأنه كتب هذه المرة كما لم يكتب فى أى امتحان منذ الابتدائية! وهكذا نجا من بركان الغضب والسياط التى كانت ستفرى أعصابه من كلمات أبيه، ليس مهمًا إن كان الحجر قد تسبب فى نجاحه أم كان الغش هو الذى فعلها حقيقةً، هكذا حدث نفسه، وإنما المهم أنه أسقط صخرة سيزيف التى على كتفه، وأن المادة لن تلاحقه فى نومه وتبيت فصولها فقراتٍ من الرعب يراها أثناء هذا النوم..

- أيمن يا ابنى أنا ذاهبٌ إلى الحجر المبارك، هل تأتى معى؟

- اعذرنى يا أبى فأنا متعب جدًا، فاليوم كان آخر الامتحانات ورغبتى فى النوم لا تجعلنى قادرًا على شىء.

- طيب يا ابنى، كما تريد. 

ساعتان قضاهما الوالد حتى الآن عند الحجر ولم يعد، وأيمن الذى لم يستطع أن ينام يسأل والدته فى حيرة: ما الذى أخره والحجر غير بعيد عن المنزل؟؟.. الحمد لله لقد عاد.. عاد متغير الوجه صامتًا تعلوه كآبة.. ماذا حدث؟

- سرقوا محفظتى وفيها البطاقة وخمسون جنيهًا.

- من الذين سرقوها؟

- لا أدرى، كل ما أعرفه أننى فتشت جيبى بعد خروجى من المسجد لأمنح متسولًا بعض الجنيهات الفضية فلم أجد المحفظة، وتيقنت أن يدًا خفيفة نشلتها فى الزحام حين كنت أمام الحجر.

غالب أيمن ضحكاته وأخفى ابتسامته، وأبدى تأثرًا بما حدث، ثم ذهب إلى المطبخ وأحضر لأبيه كوبًا من العناب البارد حتى تهدأ أعصابه.

فى شرفة المنزل حيث جلست أم أيمن، تبادلت المرأة مع الصبى نظراتٍ متسائلة.

- هل تريدين شيئًا يا أمى؟ 

- لماذا لم تخبر أباك بما حدث فى الامتحان؟ لماذا لم يعرف أنك كنت مضطرًا وأن المضطر يركب الغش؟؟ تركته ومعتقده الغريب، لم تخبره بأن الدَّرْوَشة لم تفْده ولم تُفِدْك شيئًا؟

- لستُ صريحًا مثلك يا أمى ولا يمكن أن أكون، لقد تغير كل شىء حولنا وأصبح السكوت هو الحل.

- والحق يا أيمن؟

- الحق بغير قوةٍ تحميه ليس إلا الضرر المحقق.

- ما هذا الكلام الكبير يا ابنى.

- نحن فى زمن كل شىءٍ فيه كبير، الخوف والجهل والوقاحة، التخاريف، والكذب أيضًا، حتى قسوة أبى صارت كبيرة، يصلى ويسبح، ويغضب فيعلو صوته وتصبح ليلتى غبراء! دعينى يا أمى فالحقيقة لها ثمن لا يقوى عليه شاب مثلى.

نظرت إليه مذهولة، وما هى إلا ثوان حين تولت المفاجأة وأخذها شعور الزهو، إنه الطفل الذى كانت تهدهده بالأمس، أصبح اليوم رجلًا.. وحده أيمن أدرك أنه اكتهل قبل أوانه.

مضت الليلة فى سلام، ونام سكان البيت ملء جفونهم، ولم لا؟ أيمن أدى الامتحان وراجع الإجابة مع زملائه وأدرك أنه سينجح، والأب لم يدخل فى نوبة غضب كعادته ولم يوبخ الصبى وأمه، كل شىءٍ على ما يرام، بقى فقط أن يجدوا حلًا لمشكلة البطاقة.

وهكذا حين جاء الصباح ذهب أبوأيمن الموظف المتقاعد إلى السجل المدنى ليستخرج «بدل فاقد» وبعدما أنهى الإجراءات مر على الحجر.. هل سار إليه كعادته؟

ثبت مكانه لحظةً وتذكر الصبى الذى عبر امتحانه بالغش وهو يعلم، بطاقته التى ضاعت، وظيفته والمعاش، الحق أنه تذكر حياته كلها فى ثلاث دقائق خالهن دهرًا.. فضَّل أن يعبر الطريق، ومن الرصيف الموازى جعل ينظر متأملًا إلى قطعة البازلت، وإذ لمح جموعًا خلف النافذة الأرابيسك يتمسحون بها أطرق فى أسى ومص شفتيه، ثم رفع رأسه وأكمل طريقه مبتسمًا.