رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشماتة فعل شيطانى

 

رد الفعل الذى يبديه مَن يسمون أنفسهم بالتيار الدينى تجاه "الموت" عمومًا، ووفاة أحد التنويريين بشكل خاص، يجعلنا نتوقف قليلًا أمام كمّ ما يسجلونه من عبارات التشفّى والشماتة، وكأن الموث لم يصب أحدًا من قبل، وأن الموت لن يدرك أحدًا منهم مستقبلًا، أو كأن الموت عقاب إلهى لمن دونهم أو المختلفين عنهم ومعهم. 

وهذا ما حدث خلال أسبوعين اثنين، حين توفى الدكتور جابر عصفور، وزير الثقافة الأسبق، وأحد أهم أعمدة التنوير والتصدى لترهات التيارات الظلامية، خاصة الجماعة المحظورة، وكذا حين توفيت المستشارة تهانى الجبالى، نائبة رئيس المحكمة الدستورية العليا، وإحدى الركائز القوية للدفاع عن مصرنا أمام تيارات الغدر والخيانة للوطن، وفى قلبهم الجماعة المحظورة أيضًا، وأخيرًا وفاة الأستاذ الإعلامى وائل الإبراشى الذى تصدى لهذه التيارات من خلال منصاته الإعلامية، رحمة الله عليهم جميعًا.

خرجت علينا، خلال هذا الوقت وكما تفعل دائمًا، ميليشيات التيارات الظلامية بكل غلها لترشقنا بعبارات تشبهها فى الغلظة والسوداوية من التهكم والتهجم والتشفى والشماتة، وكأن الموت عقاب إلهى، أو كأنهم يملكون أسرار الأبدية ومفاتيح الخلود، حتى إن بعض منصاتهم وصفحاتهم وضع استطلاعات إن كان هؤلاء سيدخلون الجنة أم النار، هكذا هم تدخلوا حتى فى مشيئة الرحمن، وهم يدّعون أنهم إليه أقرب.

سلوك الشماتة والفرح فى معاناة الآخرين يعطى مؤشرًا لشخصيات ملوثة الفطرة، ميتة الوجدان، ولا تمتلك الصلاحية للعيش والتعاطف والشراكة.

فالشماتة أو التشفى شعوران سوداويان، عكس التسامح والتعاطف والمشاركة، وهما إحساسان مركبان من شعورين متناقضين، السعادة والكراهية، ويعبّران عن حالة السعادة الناجمة عن تحقق الأذى للخصم، مما يتبعه شعور بالرضا عن الذات الذى يتكون من مشاهدة معاناة، أو فشل، أو إذلال الآخرين، هذا الشعور البائس يترجم حالة الانتقام، ويحقق للشخص متعة رؤية خصمه، أو عدوه لحظة فشله، أو خسارته، أو حتى موته.

والشماتة ربما تنشأ لأسباب أيديولوجية، أو ثقافية، أو اجتماعية متوارثة، وربما تكون لأسباب مادية، فبعض المجموعات المارقة والخارجة على القانون والمنبوذة اجتماعيًا مثل الجماعة المحظورة، تربى أبناءها على الشماتة والتشفى فى الآخرين، بإعلان الفرحة بشكل سافر وفج.

فى الماضى كانت الشماتة غير مستشرية، ربما لعدم توافر وسيط يظهرها، فكانت محدودة بحسب الزمان والمكان، والمجموعات التى يهمها الحدث، لكن الآن وبعد الإتاحة التى وفرتها وسائل التواصل الاجتماعى أصبحت الشماتة تظهر بفجاجة مؤذية، تصل أحيانًا حد الصفاقة، كما نرى ونطالع كل لحظة عبر وسائل التواصل الاجتماعى. 

وفى عالم التواصل الاجتماعى توجد الشماتة كذلك بصور مختلفة، فبالإضافة لحالة الاستقطاب الواسعة والتماهى المتطرف مع تيار دون آخر، نجد استخدامًا واسعًا من التيارات الظلامية للمنصات لبث روح الشماتة والانتقام، وذلك بانتهاج السخرية الموجهة للنيل من شخصيات، أو كيانات وطنية، وتلك المنصات التى تقوم بترويج الأخبار والصور المفبركة والفيديوهات المركبة والتى تحظى بتفاعل من الميليشيات الإلكترونية لخدمة هدف التيارات المتطرفة والتى تستشرى فيها الشماتة والتشفى حتى يظن المتابع لوهلة أن ما يرى حقيقى- علينا أن نعى أن ما يصدر عنها ويبث عبرها هو مجرد ممارسة سيكولوجية لا أخلاقية من تيارات ظلامية، وأن ما تحظى به من تفاعلات كله زائف، وأن وسائل التواصل الاجتماعى، رغم أنها أضحت لغة العصر وبوصلة تحديد الاتجاهات والآراء، فإنها أحد الأسباب الأساسية لظهور وانتشار الشماتة والتشفى التى تدل على السوداوية فى نفوس يملؤها الفراغ، وعقول محشوة بالسطحية.

والآن لكى نعرف ما هى الشماتة، علينا أن نفرق بين ما نطالعه عبر المنصات من التشفى فى موت أحد الوطنيين التنويريين، وبين تلك الحالات التى تكون بين الأصدقاء التى نعبر فيها بالقول المصرى الشائع "أحسن" على فعل يأخذ طابع الهزار الذى طالما ضحكنا بعده فى سياق من المودة والتعاطف، ولكن نحن هنا نتحدث عن التشفى والشماتة بمعناهما الأسود.

وعلى الرغم من التأثيرات المتنوعة للشماتة بين البراءة فى غيرة الأطفال والخبث فى الابتهاج لموت الآخرين ممن ينتمون إلى تيار مختلف، فإن شعور الشماتة مازال غير مفهوم سيكولوجيًا. 

وأخيرًا، فإن الشماتة جزء من التركيبة البشرية مثلما رأى الفيلسوف وعالم الاجتماع الألمانى "تيودور أدورنو" (١٩٠٣-١٩٦٩) حين عرّف الشماتة بأنها "ابتهاج بشكل كبير غير متوقع لعذاب الآخرين، الذى يتم إدراكه كأمر سخيف أو ملائم"، وكذلك ذكر الفيلسوف الألمانى "أرتور شوبنهاور" (١٧٨٨-١٨٦٠) أن الشماتة ذنب شرير فى الشعور الإنسانى، ملخصًا ذلك بقوله "أن تشعر بالغيرة هو أمر إنسانى، أن تستمتع بالشماتة هو أمر شيطانى".

ففى حالات التنافس والاستقطاب الأيديولوجى والصراع الفكرى والاجتماعى تظهر الشماتة كفعل شيطانى تمارسه التيارات الظلامية والجماعة المحظورة محاولة تصدر المشهد، لتحصل على بعض التواجد الذى يعرفون جميعًا قبل غيرهم، أنه تواجد زائف.