رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وائل الإبراشي.. وداعًا يا صديق المصريين

قصة نجاحه ملهمة لشباب كثيرين وذكاؤه الفطرى جعله «حبيب الجميع»

أخلص لفن التحقيق الصحفى الذى يجيده وانتقل به من الورق إلى التليفزيون فحقق نجاحًا تحوّل إلى أسطورة مع التراكم والعمل الطويل 

قصة نجاحه تقول إن التركيز فى شىء واحد تجيده أفضل من تشتيت النفس فى عشرات المجالات دون طائل 

تلقائيته وقدرته على الارتجال على الشاشة جعلت المصريين يشعرون أنه يقدم عرضًا يشبه المسرح يمتد لساعات الصباح الأولى ويحمل لهم مفاجآت غير متوقعة

واحد من أبناء مدرسة «روزاليوسف» فى عز مجدها وإخلاصه لوطنه لم يمنع وعيه بضرورة النقد وكشف المشاكل 

أكتب بعد ساعات قليلة من سماع خبر رحيل وائل الإبراشى الصادم.. أشعر أن عمرًا كاملًا يرحل برموزه وعلاماته.. ملامح كنت أعرفها لزمنى وأحدد بها اتجاهات الأيام.. تختفى الملامح ويرحل الناس ويتركوننى لزمن بلا ملامح.. ما زلت أذكر كيف رأيت وائل الإبراشى عام ١٩٩٤.. فى مجلة «روزاليوسف»، كان قد تذوق أول قطفة من ثمار النجاح بعد سنوات طويلة شارك فيها الصحفيين الشبان كفاحهم، وانتقالهم من جريدة إلى جريدة، وصعوبة إيجاد فرصة فى صحف تلك الأيام دون الاستناد لواسطة قوية، كان الأستاذ عادل حمودة قد بدأ تجربته فى «روزاليوسف» قبلها بعامين، وفتح أبواب المجلة للموهوبين، وجد وائل الإبراشى مكانه أخيرًا كمحقق صحفى نادر الوجود، واستقر وضعه المهنى نسبيًا.. بدأ اسمه فى اللمعان وأخذ نصيبه من نجاح روزاليوسف، كانت البساطة سمة مميزة له، كان وسيمًا كما ظل، خفيف الدم، يبتكر من وقت لآخر «لزْمَة» كوميدية يكررها بين وقت وآخر ويداعب بها أصدقاءه.. وحين عرفته فى تلك السنوات المبكرة كانت الـ«لزمة» المفضلة له هى «عاوزين نمسك الفلوس»، كان يكررها بضحك كتعبير عن شوق شاب مصرى مكافح لتحقيق الاستقرار المادى.. وبعد أن حقق نجاحه المعنوى والمادى أصبحت له «لزمة» أخرى هى «ضيعتنا يا فلان» فما أن يقابل واحدًا من زملائه أو العاملين معه حتى يبادره «ضيعتنا يا فلان»، وأظن أن ذلك يخلق جوًا من الألفة بينه وبين من يتعامل معه، حتى لو كان لا يعرفه، ويساهم فى دخوله سريعًا لقلوب من يتعامل معهم.. كنت قريبًا منه رغم فارق السن، وكان ينظم مباراة أسبوعية لكرة القدم فى مركز شباب عين الصيرة، يشارك فيها فريق الصحفيين ضد فريق الإعلانات والإداريين، وكان لاعب كرة ماهرًا، وانضممت لفريقه حبًا فيه لكنه اكتشف أن علاقتى بكرة القدم لا تتجاوز علاقتى باللغة العبرية، وما زلت أذكر سخريته من الفرصة التى أضعتها أمام المرمى، ولم أقل له وقتها إننى شاركت حبًا فيه لا أكثر.. كان ريفيًا ينتمى لأسرة من الطبقة الوسطى فى ريف الدقهلية، درس فى كلية التجارة، وكان معجبًا بالمهندس إبراهيم شكرى زعيم حزب العمل ونائب شربين التاريخى فى مجلس الشعب، وأظن أنه قصده فى بداية مجيئه للقاهرة، وأنه بدأ حياته بالتدريب فى صحيفة «الشعب»، التى كانت ذات مستوى متميزًا قبل سيطرة الإسلاميين عليها، وكان يعمل بها عدد من صحفيى «روزاليوسف» الأقدم مثل الأستاذ عادل حمودة، والأستاذ عبدالقادر شهيب.. كان يروى لى ضاحكًا كيف كان يُمنع من دخول المجلة هو والمتدربون بين فترة وأخرى حتى تمكن من تحقيق ذاته وإثبات نفسه كصحفى موهوب.. وهو نموذج للنجاح من خلال التركيز، وإدراك الشخص لميزته النوعية والعمل عليها.. وقد كانت ميزته الأساسية هى تألقه فى صحافة التحقيقات، وهى لب الصحافة وغايتها، كان لديه شغف بالتحقيقات، حوّله إلى احتراف، ووسع دائرة مصادره ومعارفه، وعندما جاءته فرصة وحيدة للعمل التليفزيونى فى قناة «دريم» استغلها لأقصى درجة، وحول التحقيقات المكتوبة التى تميز فيها لتحقيقات تليفزيونية، وكان يبذل جهدًا كبيرًا جدًا، ولا يعتمد على أحد بشكل رئيسى سوى على نفسه، ويُعِد برامجه لنفسه مع مراجعة للتفاصيل، ومع الوقت والمجهود تحوّل إلى رمز مهنى وقيمة كبيرة.

كانت أولى «خبطاته»، بلغة الصحافة، هى انفراده بمحضر التحقيقات فى قضية «لوسى أرتين»، وهى حسناء أرمينية تدخل عدد من المسئولين للضغط فى قضايا متبادلة بينها وبين زوجها، وكان من بينهم مسئول كبير كان فى يوم من الأيام ندًا لمبارك أو منافسًا له، وأدت القضية إلى خروجه من منصب شكلى كان قد تولاه بعد خروجه من منصبه الوزارى.. كان فى القضية كل المشهيات الصحفية والعوامل التى تثير اهتمام القارئ، وجاء هو بنص التحقيقات حرفيًا، ونشر أجزاءً منها، فأغلق الباب أمام التكهنات، وكانت المفارقة أنه حصل على القضية من محامٍ شهير تعرفه مصر كلها تقريبًا وتتحدث عنه يوميًا، وكان صديقًا مقربًا له، وكنا نعرف هذا فى المجلة، لكنه ظل يواجه اتهامات دائمة بأن جهات رسمية سربت له الأوراق، ومن حسن الحظ أنه لم يكن يلتفت لهذه الأمور كثيرًا.. وكانت له دراية واسعة بالشئون العربية، وأذكر أنه نشر تحقيقًا عن مسئول عربى كبير كان يقيم فى القاهرة ما أدى إلى سحب بلاده له من القاهرة، وإن كان قد عاد بعد ذلك، وكان يروى لى أن د. أسامة الباز مستشار مبارك كان يقول له «أفقدت مصر أقرب حليف لها فى (البلد الفلانى) بالتحقيق الذى نشرته».. كان أيضًا على اتصال واسع بقادة حماس فى بداية ظهور الحركة، وكان مسموحًا لهم بالتفاعل مع الإعلام المصرى.. ومع بداية ظهور القنوات الفضائية عملنا معًا فى قناة «دريم» فى برنامجين مختلفين للدكتورة هالة سرحان، وجاءته الفرصة لتقديم برنامج «الحقيقة» بعد رحيل الدكتورة هالة سرحان، وشاءت الظروف أن أكون أول رئيس تحرير لبرنامج «الحقيقة»، وأن تخرج أول حلقات من البرنامج وهى تحمل اسمى كرئيس تحرير، ولكنى سرعان ما انتقلت لبرنامج توك شو تقدمه إعلامية كبيرة داخل نفس القناة، لأن ظروف العمل استدعت ذلك.. منذ اللحظة الأولى أدرك الإبراشى أن عليه أن يركز على ما يجيد وهو التحقيق الصحفى، فحوّل البرنامج إلى برنامج تحقيقات من الطراز الأول، وخرج بالكاميرا إلى الشارع، وإلى خارج الحدود أحيانًا، وقدم طبخة روزاليوسف فى شكل تليفزيونى، فقدّم حلقات عن تاريخ شركات توظيف الأموال، وتجارة العملة، واغتيال السادات، وقضايا الفساد والتطرف عمومًا، وتحوّل البرنامج من أسبوعى إلى يومى، والتقينا فى نقطة فارقة من تاريخنا معًا، حيث قرر ملاك قناة دريم إصدار صحيفة الصباح، وكانت النية أن يكون هو رئيس التحرير، لكنه تلقى عرضًا لتقديم «العاشرة مساء»، فتفرغ للبرنامج، وراهن عليه، وتعطل صدور الجريدة، واستعانت بى الإدارة كرئيس تحرير تنفيذى، وتعاونّا معًا، لكن أطرافًا صغيرة تدخلت، ولم تكن الظروف إيجابية بشكل عام، ولكن هذا لم يمنعنى أبدًا من تقديره، ومعرفة قيمته، وأظنه كان يبادلنى نفس الشعور.. وقد واصل تحقيق النجاح فى «العاشرة مساء»، حتى وصل لعنان السماء، وكان من ذكائه أنه يخصص معظم الفقرات لأحداث تحدث فى المحافظات والقرى، ويعبر من خلالها عن مشاكل الناس العادية، فأدى هذا إلى ارتفاع نسب المشاهدة لآفاق أسطورية، فضلًا عن المعنى الذى يفيد بأن مصر ليست القاهرة فقط ولا أهل المدن فقط.. وساعدت طاقته الهائلة على العمل فى أن يمتد البرنامج لست ساعات أو سبع أحيانًا. وهو يرتجل على الهواء، ويخلق أسئلة ومحاور من كلام الضيوف على الهواء مباشرة، ويطلب من المعدين أن يحدثوا أطرافًا ذكرها الضيف للتو، وهم غالبًا لا يعرفون عنها شيئًا، وإذا «شتم» الضيف شخصًا طلب من معديه أن يتصلوا بالطرف المشتوم ليرد! فإذا قال هذا الطرف المشتوم شيئًا عن طرف ثالث اتصل به وأدخله فى الحوار وهكذا.. ساعد هذا الارتجال على زيادة شعبية البرنامج.. حيث كان الناس يشعرون أنهم أقرب لحالة مسرحية، يتفاعل المذيع فيها مع كل الأطراف على الهواء مباشرة بذكاء، وبخفة ظل.. وإن كان طبعًا لهذا النجاح أعراض جانبية مثل تفجير الخلافات أو النزاعات بين أطراف مختلفة إلى آخر ما يعرفه الناس فى هذا الموضوع.. على المستوى السياسى كان الإبراشى ابنًا بارًا لمدرسة روزاليوسف، وهى مدرسة تؤمن بالنقد البنّاء، وللإصلاح من الداخل، وبتأييد الدولة فى الخط الوطنى العام، مع الاحتفاظ بالحق فى نقد التفاصيل، وكان يرى أن الإعلامى لا بد أن ينحاز للناس وأن يعبر عن مشاكلهم وقضاياهم.. فى ٢٠٠٥ خرج من روزاليوسف، وتولى منصب رئيس تحرير «صوت الأمة»، وبقى ابنًا مخلصًا لمصر، وناصب الإخوان العداء وإن كان له أسلوبه الخاص الذى يتسم بالنعومة ومد الجسور قبل افتراس الخصم.. وكان من الأشياء التى تأسرنى فيه جدًا المجهود الذى كان يبذله للتوسط لأهل قريته البسطاء.. سواء للحصول على فرصة علاج أو فرصة عمل، أو غير ذلك من المصالح البسيطة التى عادة ما يقصد القرويون ابن قريتهم الناجح للاستعانة به على قضائها، وأذكر أننى داعبته مرة قائلًا: «هل ستنزل الانتخابات»؟ فقال لى إن مساعدته للناس واجب وليست لها علاقة بنزوله الانتخابات من عدمه.. لذلك شعر الناس بالحزن بعد رحيله، وهو من الصحفيين الألقاء الذين كانوا يحظون بحب المسئولين وحب المعارضين أيضًا.. والسبب فى ذلك هو ذكاؤه الشديد ووضوحه وروحه المرحة.. رحم الله الإبراشى أخًا، وزميلًا، وصديقًا كبيرًا، ومصريًا عصاميًا، وصحفيًا نابهًا، وإعلاميًا وطنيًا، وشخصًا صادقًا عبّر عن مشاكل الناس، وجزاه الله عما قدم خير الجزاء.