رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ولا تجسسوا

الحوادث المتتالية تخبرنا بلا شك بالشكل الذى أصبح عليه المجتمع، فى الأربعينيات كان يقال إن الصحفى الذى لم يمر على قسم الحوادث لم يكتمل تكوينه المهنى، وكان المبرر أنه من خلال عمله فى هذا القسم يرى المجتمع على حقيقته.. الآن أصبح النشر سهلًا، لم تعد فى حاجة للذهاب لقسم الشرطة كى تعرف الحوادث التى تدور فى بطن المجتمع، أصبحت الحوادث تأتى إلينا بدلًا من أن نذهب إليها.. وسائل التواصل الاجتماعى والمواقع الصحفية تتابع الحوادث التى تشغل الرأى العام على مدار الدقيقة، صحيح أن بعض التفاصيل تكون غائبة.. والمعالجات تكون سريعة.. لكنها تؤدى دورها فى حدود الظروف المهنية.. اليومان السابقان حملا أخبار عدد من الحوادث المؤلمة.. بعضها يحمل طابع المأساة.. العامل المشترك بينها هو «كاميرا الموبايل».. تحولت هذه الكاميرا إلى أداة قتل وتدمير، أصبحت لا تقل خطرًا عن المسدس غير المرخص، والسكين، والمدفع الرشاش، إنها للأسف أذكى منها وأكثر تطورًا، لذلك تقوم بمهام متعددة، منها التجسس، والاغتيال المعنوى، وتدمير البيوت، وهدم السمعة، وأخيرًا وصلت آثارها إلى القتل الفعلى.. الأخبار عن انتحار فتاة مراهقة بعد تسريب صور مفبركة لها مؤلمة للغاية.. جريمة مركبة متعددة الأبعاد.. شاب نذل أو مجرم تشارك مع زميله فى فضح فتاة صغيرة أمام مجتمعها وأهلها وزملائها.. هذه الجريمة تمت عبر «فيسبوك»!! إن «فيسبوك» نفسه شريك فى الجريمة.. كيف يمكن لأى شخص أن يؤسس صفحة وفق بيانات مجهولة أو معلومة ليفضح عليها الآخرين.. هذا الموقع العملاق الذى يملك قدرات خرافية على التتبع والفهم والتحليل وفق الخوارزميات وآليات الذكاء الاصطناعى، كيف يسمح بهذه الجريمة وغيرها؟؟ اللجنة التى سمعنا عنها لمواجهة قيم وأخلاقيات الاستخدام، وتضم الناشطة المعارضة دائمًا «توكل كرمان» ما هو دورها؟؟ كيف يمكن أن يسمح المسئولون عن هذا الموقع أن يتحول إلى أداة للقتل والتشهير والإساءة والابتزاز، وهى جريمة تتكرر يوميًا بصيغ ودرجات مختلفة.. إن موقع فيسبوك هو أول الجناة فى هذه الجريمة.. أما ثانى الجناة فهو المجرم الذى صور هذه الفتاة أو اصطنع لها صورًا، وبالمناسبة هى ضحية فى الحالتين، لنفرض مثلًا أن مراهقة أخطأت وتم التغرير بها، هذا خطأ منها فى حق نفسها، لكن هناك مجرم صورها، وهذا فى حد ذاته جريمة، ثم استخدم الصور فى ابتزازها وتهديدها، ثم فضحها عندما رفضت الاستجابة له، مجموعة جرائم مركبة ومتتالية، لقد أجريت بحثًا سريعًا حول عقوبة التجسس فوجدت نصًا قانونيًا يقول إن الحبس فى هذه الجريمة لا يزيد على سنة!! وأظن أن المادة كانت تتحدث عن تسجيل المكالمات التليفونية دون إذن.. لا أعرف ما هو وضع جريمة تصوير الآخرين دون إذن، لكنى أتمنى أن تضاعف العقوبة فى هذه الجريمة حتى تصل للسجن المؤبد أو الإعدام، خاصة أنها ترتبط حتميًا بجرائم أخرى مثل الابتزاز والتهديد الذى تصل آثاره لدرجة القتل، المجرم الذى صور وهدد وفضح وأذاع هو المتهم الثانى، هناك أيضًا المجتمع الذى تعاطى هذه الصور والفيديوهات وساهم أفراد منه فى نشرها وفضح الفتاة دون أن يظهر واحد فقط عنده أخلاق يتقدم ببلاغ، أو يعترض على فضح الفتاة، أو يتضامن معها أو يسعى لمساندتها، بل على العكس، حول الجميع عرض الفتاة وشرفها إلى وليمة يتم نهشها وكأن الجميع ملائكة لا يخطئون، لقد قالت بعض التقارير إن الفتاة أقدمت على الانتحار بعد أن قال لها مدرسها إنها صارت نجمة شهيرة بفضل الفيديوهات المنشورة لها، وهو تعبير لو صح يدل على أن هذا المدرس شخص بلا أخلاق، يصل فى تدنيه إلى درجة الحقارة، وأنه تحول إلى أداة ضغط على الفتاة بدلًا من مساندتها أو على الأقل التزام الصمت تجاه مشكلتها، وهذا هو المجرم الثالث، ثم هناك أخيرًا أسرة الفتاة التى يبدو واضحًا أنها لم تمارس دورها فى مساندتها، والتقدم ببلاغ ضد من شهروا بها، والتصدى لهم بالطرق العرفية والقانونية حتى يتوقفوا عن فعلهم أولًا وحتى يتم عقابهم على ما فعلوه ثانيًا، ويبدو واضحًا من خطاب الفتاة لأمها قبل انتحارها أن الأم كانت تعرف وتتهم ابنتها، فى حين يبدو الأب غائبًا بطريقة ما، وللأسف هذا ليس دور الأسرة، دور الأسرة أن تساند أبناءها، وتحميهم، وتفترس من يهددهم، وبعد زوال الخطر فللأسرة أن تتخذ من إجراءات العقاب والتربية ما تريد، ولكننا للأسف نعانى من غياب مفهوم الأسرة، ومن انتشار ثقافة العدوان والتعصب والتطرف، والفضح، واستباحة لحم الآخرين، واستباحة خصوصياتهم، ومن غياب ثقافة القانون والتعاطف مع الضحايا والبحث عن الحقيقة واحترام حق الآخرين فى الخطأ والتوبة، وهى كلها ميراث لعقود طويلة من سيادة التدين المغلوط وثقافة العنصرية والتنمر وقمع المرأة وعدم احترام الخصوصية... إلخ، وهى منظومة أخلاقية تنتمى إلى مزابل التاريخ وللأسف نكاد ننفرد بها عن العالم أجمع، حيث خطا الجميع خطوات كبيرة جدًا فى اتجاه الحرية والحضارة واحترام حقوق الآخرين وخصوصياتهم وقبل ذلك كله احترام سيادة القانون.. للأسف لا تقدم بدون منظومة أخلاقية واجتماعية قوية.. ومن واقع ما نراه الآن فإن المهمة صعبة والرتق اتسع على الراتق، ولا نملك إلا أن نسأل الله السلامة لنا، وأن نسأل الله التوفيق لمن يسعى للإصلاح فى مثل هذا الواقع المؤسف.