رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لماذا تبنى «حياة كريمة» كل هذه المستشفيات؟

علاقتى بالسباحة علاقة المجبور.. لم أحبها يومًا لأنها تذكرنى بأول خيباتى.. ولأنها سر الوجع الذى أصاب العشرات من أصحابى.. أصحاب الأيام البريئة.

كان يومًا شتويًا صعيديًا بامتياز.. وكنت عائدًا سعيدًا فى غاية النشوة، فقد أعلن مدرس الفصل أننى الأول على فصل أولى رابع.. وأنه سيسلمنى الجائزة فى الفسحة بعد مباراة يلعبها فريقان من الصف السادس.. وكان أن ذهبت مزهوًا بانتصارى وسط العشرات من التلاميذ وأساتذتهم.. مارًا بطابور شرف ورنات التصفيق تطرب أذنى لأتسلم جائزتى.. «شفشق من البلاستيك ومجموعة أقلام ملونة».. حصل زميلاى «محسن وديع وصفية عبدالسلام» على جائزتين مشابهتين، وكان هذا الأمر يتكرر شهريًا فى مدرستى- مؤسسة العسيرات الابتدائية.

وانتهى اليوم الدراسى وعدت ممسكًا بجائزتى قابضًا عليها طائرًا من الفرح إلى أمى.. قبيل بيتنا بدقائق كنت فى منتصف الجسر الذى يمتطى الترعة الكبيرة وفى مواجهتى مزارع عائد من غيطه فوق حماره، وفوق الحمار «تليس ممتلئ».. وجفل الحمار الذى فوجئ بى فاردًا دراعاتى بجوائزى أرقص فرقص معى واستدار ليخبطنى بالتليس وأجدنى فى منتصف الترعة غريقًا محتملًا.

لم أدر كم مر علىَّ من الزمن وأنا تحت الماء ويدى قابضة على الأقلام والشفشق.. كل ما أتذكره أنهم أخرجونى ممتلئًا بالماء.. وظلوا يدوسون على بطنى حتى خرج الماء من فمى.. وزغردت أمى وجاراتها فرحًا بإنقاذى.. لكن جيرانى صمموا على تعليمى السباحة.. وكان أن ألقوا بى فى الترعة مجددًا.. بعد كام يوم طبعًا.. ومن يومها وأنا أعوم فى الترعة لسنوات مثل أقرانى حتى سحبنا عم محمود المزين إلى الوحدة الصحية لنحصل على حقن البلهارسيا.

هذه الحكاية يعرفها كل من عاش فى الريف.. بحرى أو فى الصعيد.. ويتذكر جيدًا حقن «الطرطر» المؤلمة التى ذهبت بالبلهارسيا لكنها تركت لنا أخطر فيروسات العصر.. فيروس «C».. هل تتذكرونه؟!

يبدو أننا فى غمرة وباء جديد.. ومتحوراته وفى زحمة ما نقاسيه من تفاصيل حياتية لاهثة لم ننتبه لواحد من أهم تحديات عصرنا.. إعجاز مصرى خالص لا يعرف قيمته إلا من ذاق مرارة أوجاعه.

لم يكن فيروس «C» مجرد مرض.. ١٠٠ ألف مصرى كانوا يصابون به كل عام.. ووصل الأمر إلى إصابة ما يقرب من ٢٣ مليون مواطن بذلك اللعين الذى اخترق الأكباد فصارت حطامًا.

أهلى فى الصعيد يتذكرون تلك الأيام الغبراء جيدًا.. أغلبهم كان يعمل بالخليج.. وفى ذروة تسعينيات القرن الماضى عاد أغلبهم ضعيفًا موجوعًا لا يقدر على إكمال رحلته فى الغربة لجلب لقمة العيش بعد أن ضاقت عليه سبل الرزق فى بلادنا.. وبعضهم عاد من القاهرة، حيث كان يعمل ليبيع ما يملك من قراريط قليلة بحثًا عن علاج قد يتوفر فى أى بلد أوروبى.

كان الأمر صعبًا على الجميع.. محافظتى لا يوجد بيت فيها لا يسافر منه شخص أو اثنان للخليج.. والبيوت هناك تم بناؤها من عرق هؤلاء الشقيانين فى ليبيا والعراق والخليج.. والخليج حاصر القادمين من القاهرة بعد أن أصابهم الفيروس.. بعضهم كان يعرف أن كبده مهترئ وطحاله أُبيد تقريبًا لكنه يبحث عن شهادة مضروبة بخلوه من ذلك الفتاك اللعين حتى يستطيع العودة إلى عمله فى الكويت أو السعودية.. أما من أقعده المرض فعلًا فقد راح هو وعائلته يبحثون عن سرير خالٍ فى مستشفى.. عن قرار علاج على نفقة الدولة.. عن سماسرة المستشفيات.. هكذا كانت الأحوال ولم ينجُ من ذلك الفتك إلا القليل.

وقتها عاشرنا إهمال المستشفيات وفسادها.. عرفنا نعمة الصحة.. ورحنا نبحث عن «الله» فوحده الذى يملك إنقاذ أهالينا.. لم يفكر أحد فى الحكومة.. أى حكومة.. لأنهم كانوا ومنذ سنوات طويلة سبقت ذلك قد أدركوا أنهم ليسوا على أجندتها.

بنوا بيوتهم بمعرفتهم.. أوجدوا وظائفهم فى الخارج بطريقتهم.. راحوا يعلمون أولادهم فى مدارس لم تدفع فيها الحكومة مليمًا.. لم يعد لهم من صلة بالحكومة إلا فى أقسام الشرطة عندما تضطرهم الظروف.. فكيف يبحثون- بعد ذلك- عن علاج لديها وهم يعرفون أن مستشفياتها أقصى ما تملكه «شريط ريفو» يصرفه الطبيب لأى مريض.. هذا إن وجد الطبيب من الأصل.

وكان إن تحققت المعجزة.. وتم إجراء مسح شامل لما يزيد على ٥٣ مليون مواطن مصرى.. أُصيب ما يزيد على نصفهم بذلك المرض الفتاك.. وخلال عامين فقط.. من بداية ٢٠١٨ تقريبًا انتشرت قوافل مبادرة ١٠٠ مليون صحة.. لتجوب القرى والنجوع.. لتلقى العلاج الذى حصلت عليه حكومة مصر.. نعم هذه المرة حكومة مصر.. ومجابهة أخطر فيروس أهلك الزرع والضرع.. فى أقل من عامين لم يعد هناك مريض مصرى واحد بذلك الفيروس المميت.. ولم يعد أهلنا فى الصعيد يحتاجون إلى شهادة لتقديمها إلى من يعملون معهم بخلوهم منه.

نسينا كيف كنا.. ونسينا أوجاع أحبتنا.. ومن فقدناهم.. مات أعز أصحابى تحت عجلات قطار فيروس «C» فى خمس سنوات متتالية.. ولكننا تذكرناهم اليوم ونحن نشاهد عشرات المستشفيات الجديدة يتم بناؤها بجوار منازلنا.. بالقرب من تلك الترعة التى سقطت فيها ترتفع الآن أعمدة واحد من مستشفيات التأمين الصحى الجديد ضمن مشروع «حياة كريمة».. تذكرنا أوجاعنا ونحن نتعشم ألا تعود مجددًا.. تذكرنا بكاء أهالينا وهم فى طرقات مستشفيات القاهرة يتألمون لألم أحبتهم ونحن ننظر بفرح لخرسانة المستشفى الجديد.. آملين أن ينتهى قريبًا.. وحسب الشركة التى تنفذه ومسئولى المبادرة فى خلال شهور سيكون جاهزًا للتسليم مع ستة مستشفيات أخرى فى قريتى.. لكن السؤال الذى يطارد الأهالى هناك.. لماذا نبنى كل هذه المستشفيات فى قرية واحدة.. وهناك خمسة مستشفيات موجودة بالفعل لكنها لا تعمل، لأنها لا تجد أطباء أو ممرضين أو عمال نظافة.. أشد ما نخشاه ألا يكون مسئولو المحليات قد أبلغوا رؤساءهم أن لدينا بالفعل مستشفيات.. لكنها مهملة ولا تعمل لأنها لا تجد الكوادر التى تقوم بتشغيلها!!

فرحون نحن.. أنا وأهلى بما يحدث على الأرض فى نجوع وقرى مصر فى المبادرة الأعظم «حياة كريمة».. لكننا نخاف.. ذلك الخوف الذى شعرت به وأنا أقفز رغمًا عن أنفى فى ماء الترعة لأحصل على البلهارسيا.. لقد نجحت مصر فى القضاء على فيروس «c» عندما توفرت لها الإرادة.. والمعلومات السليمة.. وسينجح كل ما نبنيه الآن حتمًا لأننى أثق أن من يبنى كل ذلك يعرف كل شىء