رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الدائرى كدليل على رداءة الماضى

أمُر بشكل دورى على الطريق الدائرى.. ألاحظ أعمال تطوير ضخمة تجرى على قدم وساق.. من ضمن هذه الأعمال توسعة الطريق وتحويله من ثلاث حارات إلى سبع حارات.. هذا التوسع يقتضى نزع ملكية عمارات سكنية ملاصقة للطريق حتى تكاد تكون جزءًا منه.. وهو وضع تراكم خلال سنوات سابقة ولم أجد له شبيهًا فى أى بلد فى العالم.. فى كل بلاد العالم وفى مصر أيضًا يوجد حرم للطريق.. مساحة خالية حوله.. لاعتبارات متعددة منها احتمالات توسعة الطريق فى المستقبل ومنها سلامة السكان المحيطين به، ومنها اعتبارات الاستثمار الاقتصادى للطريق.. فالدولة عندما تمد طريقًا فى منطقة ما فإنها تحول التراب إلى ذهب، ومن المنطقى أن يكون حرم الطريق والأراضى المحيطة به نفعًا عامًا لا مغارة على بابا ومصدرًا لثراء مجموعة قليلة من ملاك الأراضى المحيطة بالطريق والذين لا نعرف من هم وكيف كانوا وكيف أصبحوا بعد مد الطريق وما حجم الثروات التى كونوها.. أيًا كان الأمر فهذا أحد أوجه فساد متعددة تجد الدولة نفسها مطالبة بالتعامل مع نتائجها حاليًا.. المعلومات الرسمية تقول إن شق الطريق الدائرى والذى يربط محافظات القاهرة الكبرى ببعضها استغرق ١٦ سنة كاملة!! أو الفترة من ١٩٨٩ إلى ٢٠٠٥، وإن وصلات أخرى أضيفت له فى ٢٠٠٩ رغم أن طوله لا يتعدى مائة كيلو متر فقط.. وهى مسافة يمكن الانتهاء منها فى أسابيع قليلة بمعدلات الإنجاز هذه الأيام، خاصة لو عرفنا أنه تم شق ٧ آلاف كيلو من الطرق الجديدة فى عامين بعد تولى الرئيس السيسى.. لم يكن الطريق الدائرى دليلًا على بطء الإنجاز فقط، لكنه كان أيضًا دليلًا على انعدام النظرة المستقبلية، فمعدلات الزيادة السكانية تقول إننا نزيد بمعدل ثابت كل عام وإن هذا يقتضى أن نضع هذا الاعتبار فيما نشقه من طرق وما نبنيه من مشاريع عامة، لكن المسئولين فى الثمانينيات وما بعدها كانوا لا يملكون أى رؤية للمستقبل فتم شق طريق من حارتين فقط! ومع زيادة استخدام الطريق تمت زيادة حارتين أخريين بشق الأنفس رغم أن عدد السيارات التى تستخدم الطريق يوميًا وصل إلى مائة ألف سيارة.. وهكذا كان البطء هو السمة الأولى، وانعدام النظرة للمستقبل هو السمة الثانية، بينما قال زحف الميكروباصات وبعدها التكاتك أن الرخاوة وغياب الحزم كانا السمة الثالثة، فلا يوجد طريق سريع فى العالم تسير عليه سيارات ميكروباص تتوقف كلما حلا لها.. أو كلما طلب راكب النزول قريبًا من منزله.. ولا توجد منازل أساسًا تطل على الطرق السريعة وتكاد تكون جزءًا منها.. من علامات الرخاوة التى تصل إلى حد الإجرام أيضًا السماح بسير سيارات النقل فى نفس الحارات التى تسير فيها سيارات الملاكى والميكروباصات وهو ما أدى لمئات من الحوادث الدامية والمؤلمة، وإلى جانب البطء، وانعدام الخيال، والرخاوة، هناك أيضًا الفساد الصريح.. فلا يمكن أن تكون الآلاف من العمارات العشوائية قد انتصبت فجأة فى الأراضى الزراعية دون أن تلفت نظر أحد، ولا يمكن أن تكون قد تركت دون إلزامها بالابتعاد عن حرم الطريق، أو الالتزام بتصميمات للمبانى، أو ألوان للواجهات دون أن يكون ذلك بفعل فاعل رأى وتواطأ وتظاهر بأنه لم يرَ شيئًا.. وإلى جانب كل ذلك هناك العيوب الهندسية التى تثبتها التقارير الرسمية من حيث رخاوة التربة والهبوط المتكرر فى الطريق، وضعف الأعمدة التى تحمله فى بعض المواضع، وانهيار الأسفلت المتكرر وعدم الالتزام بالمواصفات الهندسية.. وهى كلها عيوب يتحملها من يريد الإصلاح الآن.. ويكفى أن الدولة تقوم بدفع تعويضات مجزية للغاية لأصحاب المساكن العشوائية المحيطة بطول الطريق، وتشترى منهم منازلهم بسعر السوق حتى لا يتعرض المواطنون للضرر ومراعاة لأن ما أدى لهذا الوضع هو انعدام الخيال والكفاءة لدى من خطط وأشرف، وليس فقط رغبة مواطنين فى استغلال الوضع أو الثراء السريع عبر البناء العشوائى.. إن ما دفعنى للكتابة عن الطريق الدائرى كدليل على الرداءة التى كنا نحيا فيها هو أننى متأكد أن ما واجهته الدولة فى تطوير الدائرى واضطرارها لدفع ثمن أخطاء الماضى تواجهه فى مئات المواقع الأخرى.. حيث تدفع مصر ثمنًا مضاعفًا لانعدام الكفاءة فى الماضى ولو أن هذه المشاريع تم تنفيذها بالكفاءة اللازمة لوفرنا مليارات الجنيهات من التكاليف باعتبار نسب التضخم وباعتبار أننا لم نكن سنضطر لتعويض من استفادوا من أوضاع خاطئة من الأساس.. وأذكر أننى شكوت لطبيبى من الآثار الجانبية لدواء مضاد للكوليسترول فقال لى يجب أن تتحمله لأنه الدواء الوحيد الذى يزيل آثار ما تراكم فى الماضى ويمنع تراكم مشاكل جديدة فى المستقبل.. وأظن أن هذا هو وضع مصر كلها الآن.. تزيل آثار الماضى وتمنع مشاكل المستقبل ولهذا يجب أن نتحمل.