رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«نساء نجيب محفوظ».. الحب فى حياة وروايات أديب نوبل

نساء نجيب محفوظ»
نساء نجيب محفوظ»

المرأة فى عالم نجيب محفوظ هى الحياة التى استمد منها نجاحاته وإبداعاته، فهو بلسانه يقول: «كتبت الكثير من رواياتى تحت تأثير الحب، هذا الحب هو حب المرأة».

لذا كان من الضرورى أن نسأل: كيف كان يرى نجيب محفوظ المرأة المصرية؟، وكيف كان يراها فى كل مراحلها، صغيرة وكبيرة، وزوجة وحبيبة وعاشقة وعاهرة؟.. وكيف صوّرها فى كل حالاتها الاجتماعية، فقيرة ومتوسطة وغنية؟.. هل يمكن أن نعتبر ما كتبه سجلًا اجتماعيًا لواقع المرأة المصرية فى مختلف الفترات؟.. نسأل أيضًا: هل الصورة التى رسمها بعيدة كل البُعد عن المرأة التى نعرفها حاليًا؟ وما الذى تغير إذن فى واقعها؟

الحقيقة أنك بإثارة هذه الأسئلة تكتشف أن نساء نجيب محفوظ فى القرن العشرين، لا يختلفن كثيرًا عن نساء مصر فى القرن الحادى والعشرين، فرغم هذا التباعد الزمنى، فإنك تجد تلك الخيوط الوثيقة التى تصل بين هذين النموذجين، فالمرأة كما هى، حائرة، ما زالت تدور فى حلقة مفرغة، حول حقوقها وواجباتها وحرياتها وقيودها، وما زالت تحارب وتناضل فى محاولات مستميتة لتنفض عنها غبار تراكمات قرون الخضوع والمهانة والذل، فهل نجحت إذن؟

هذا ما نجيب عنه.

أعطى للأنثى مكانتها المستقلة.. وجعل قضية تحررها همه الأكبر ولم يغفل تفاعلها مع المتغيرات

قبل نجيب محفوظ، كانت الرواية تركز على المرأة باعتبارها رمزًا للحب والجنس فقط، مجرد شىء يثير العواطف النبيلة أو الخبيثة، لكنه جاء وجعل لها كيانًا مستقلًا، بمعنى أدق، جعلها فاعلًا وليس مفعولًا، لها الحق فى الحياة والتعليم والعمل، لم يكن ذلك على مستوى الرواية فقط، بل كان ذلك شاغله الشاغل منذ أن كان شابًا صغيرًا يكتب المقالات فى المجلات المختلفة، ففى ١٩٣٠، وعمره ١٩ عامًا، كتب مقالًا فى مجلة السياسة الأسبوعية بعنوان «المرأة والعمل فى الوظائف الحكومية»، كان يطالب فيه بضرورة تعليم الفتاة المصرية.

 وفى معظم روايات محفوظ، تظل المرأة هى المحور الأساسى الذى تدور حوله الأحداث الرئيسية، يضعها وسط المشكلة التى يريد أن يعالجها، فيخلق من وجودها فى روايته انعكاسًا للوضع الاجتماعى للمرأة وتطورها فى مصر المعاصرة. وقد حفلت رواياته بالكثير من النماذج للمرأة، فى شتى المستويات، فقدمها لنا وكأنها تجسد الواقع المتأزم للمجتمع المصرى، ولم يغفل تفاعلها التاريخى مع كل المتغيرات التى تطرأ عليه والأحداث المهمة به.

إحسان شحاتة ونفيسة نموذجان لم يصمدا أمام الفقر

الفقر والعوز هما أخطر ما يداهم الإنسان، ولا يوجد نموذج فى عالم نجيب محفوظ يحمل كل دلالات القهر والفقر، يفوق نموذج «نفيسة» فى «بداية ونهاية»، إذ وقع عليها قهر قدرى بدمامتها وحرمانها من الجمال، وحرمانها من أبيها بموته وهى فى أشد الحاجة إليه، ثم تكتمل السلسلة المظلمة بفقرها وحرمانها من التعليم، وإهمال إخوتها لها، واستغلالها جسديًا من قِبل سلمان جابر، ليلتف قهر المجتمع لها حول عنقها حتى الموت. 

لقد كانت «نفيسة» ضحية الفقر والوضع الاجتماعى المتردى، وهذا النموذج مكرر فى أعمال نجيب محفوظ، فإحسان شحاتة فى «القاهرة الجديدة»، هى نفسها «نفيسة»، هما مجرد صرخة احتجاج ضد استغلال المرأة وفقرها وامتهان كرامتها. 

كان انحراف «نفيسة» تحت وطأة الضغوط النفسية والاقتصادية والاجتماعية، وحين توسلت إلى أخيها ليسامحها، لم تلق قبولًا، فقفزت فى النيل لتتحمل هى وحدها المسئولية والعار، فكانت البداية فقرها والنهاية انتحارها. 

هذا السقوط الأخلاقى نتيجة الفقر والعوز والحياة غير الكريمة، نفس هذه الحياة التى نشأت فيها «إحسان شحاتة»، فكانت أمها عاهرة متزوجة من قواد، فرضت أسرتها عليها أن تنحرف، وتصبح عشيقة لواحد من طبقة الأثرياء، الذى ورط سكرتيره محجوب عبدالدايم بالزواج من إحسان بعد أن حملت منه، فسقط هو الآخر، هذا السقوط الأخلاقى المدوى ضحية الطموح والفقر والعوز وإغراءات الحياة.

أمينة.. النموذج الأعظم للقهر فى المجتمع

لا يوجد نموذج للمرأة المقهورة فى مجتمعها، مثل «أمينة» فى الثلاثية الشهيرة، كان زوجها يمارس مفهوم مجتمعه بأكمله للأنثى، وهى أنها أداة متعة، وأنها خُلقت لخدمة الرجل ولأغراضه الخاصة ولمتعته، ولا بد من حمايتها من أعين الآخرين، لا من أجل خاطرها، لكن لأنه لا يريد لأحد أن يعبث بممتلكاته، فهى الكائن الأدنى والأضعف، ولا ترى العالم إلا من ثقب المشربية، فهى لا تعرف شيئًا عن معالم القاهرة سوى الشارع الذى تسكن فيه، ولا تعرف حتى متجر زوجها، لدرجة أنها حين خرجت إلى الشارع، تكتشف أنها فقدت مبادئ المشى الأولية وتتعثر وتصاب، وتشعر بالذنب وكأن ما حدث لها عقاب عما ارتكبته؛ لقد ارتكبت فى ظنها مصيبة كبيرة بخروجها وحدها إلى الشارع.

استوحى نجيب محفوظ صورة «أمينة» من واقعه، فهذا هو نموذج المرأة أو الأم بشكل محدد، التى تتعايش مع تناقضات المجتمع بخضوع، لتحافظ على تماسك أسرتها، فهى رغم ضعفها وقلة حيلتها، كانت العنصر الأساسى فى احتواء هذا البيت المزدحم بالتناقضات. 

نفس هذا النموذج نراه قريبًا لأمينة فى رواية «بداية ونهاية».. تلك الأم المنكسرة «أم نفيسة»، التى لم تحصل على تعليم أو ثقافة، ويتركها زوجها راحلًا وخلفه مجموعة من الأبناء، تتحمل وحدها مسئوليتهم، وتتجاوز مرتبة كونها مجرد امرأة لتكون نموذجًا للتضحية ونكران الذات والتسامح رغم الفقر والذل والقهر الذى تعيش فيه.

ويبقى السؤال: كم «أمينة» و«أم نفيسة» يعشن بيننا الآن؟، وهل ما زال بيننا ذلك النموذج الخاضع للمرأة التى تتأقلم مع كل تناقضات الرجل المصرى وتسلطه وتجبره وانحرافاته، ومع ذلك تقبل وتعيش من أجل الحفاظ على أسرتها وبيتها وأبنائها؟.

لماذا انتصر للعاهرة فى أعماله الأدبية بعد أن خذلها الرجال؟

شغلت العاهرات مساحة كبيرة من أدب نجيب محفوظ، فى كل رواية تقريبًا تجد هذا النموذج، على سبيل المثال «زنوبة» فى الثلاثية، و«نور» فى «اللص والكلاب»، و«فايزة نصار» و«عزيزة عبده» فى «المرايا»، والفتاة «فلة» فى «الحرافيش»، وغير ذلك الكثير فى رواياته مثل «الشحاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، وقد أكد نجيب محفوظ من خلال كل هذه النماذج، أن البغاء محصلة ظروف اجتماعية ومادية قاسية، فكل تلك النماذج كانت تتطلع إلى الحياة النظيفة المستقرة. 

ففى حوار نادر له فى مجلة «الهلال» يؤكد: «الأغلبية الساحقة للمنحرفات يتلهفن على الحياة المستقرة، هذه حقيقة ولكنها غائمة بعض الشىء، وسبب ذلك أن كل الفرص التى تظهر للمنحرفة لا تثق بها ولا تطمئن لها، إنما هى لو وجدت الصادق فى حبها، وبادلته نفس الحب فهى لا شك ستنقلب إلى امرأة أخرى، كلهن متلهفات إلى حياة كريمة شريفة». 

هكذا كان يرى نجيب محفوظ العاهرات، فهى فاضلة فى نظره، أو ضحية، فقد قال فى حوار نادر له: «هناك منحرفات فاضلات ومنحرفات غير فاضلات والواقع أن كثيرًا من المنحرفات فى رواياتى فاضلات، يرتكبن الإثم بسبب المجتمع». وهذا ما أكدته أعماله بالفعل، فالبطل فى «السمان والخريف» يستغل العاهرة ثم يتركها ويتخلى عنها بعد أن تحبه وتحمل منه، ثم «نور» فى «اللص والكلاب»، التى تقف بجانب البطل بعد أن يتخلى عنه الجميع. 

يقول محفوظ على لسانها: «أريد نومة مطمئنة، وصحوة هنية وجلسة وديعة، ألا يتعذر ذلك على رافع السماوات والأرض؟»، حتى إن زنوبة نفسها تقول لياسين فى «الثلاثية»: «لقد ضقت ذرعًا بحياة الحرام، ليس وراءها إلا البوار، إن مثلى إذا تزوجت قدّرت الحياة الزوجية خير قدرها». 

لدرجة أن نجيب محفوظ كان قد جعل أبطاله الرجال حين يضيعون يلجأون إلى الزواج من المومسات، وهذا ما فعله «ياسين» فى «قصر الشوق»، وما فعله «عثمان بيومى» فى «حضرة المحترم»، وذلك ما فعله «سالم» فى «الحب تحت المطر»، ويبرر البطل ذلك حين عرضه على «سميرة»: «إننى أريد أن أستقر مع امرأة معقولة بلا خداع!». 

رندة ونوال.. هل نالت المرأة حريتها فعلًا بالتعليم والعمل؟

فى روايته «يوم قتل الزعيم»، خلق أديب نوبل شخصية «رندة» تلك الفتاة الجميلة المتعلمة، التى تعكس الحرية المنشودة للمرأة فى التعليم والعمل، إلا أن محفوظ عرض هذا النموذج بطريقة ناقدة، فهذه المكاسب التى تحصلت عليها الأنثى فى رأيه، تحوّلت إلى ممارسة شكلية فى المجتمع، فالتعليم أصبح من أجل انتقاء زواج أفضل، وعملها صار من أجل إعالة أسرتها، وإذا وجدت الزوج المناسب، فلا مانع من الإطاحة بالعمل والتعليم، لتضحى بكل شىء من أجل زوجها وأبنائها. 

كان نجيب محفوظ يرى فى هذا التطور الذى حدث للمرأة، مجرد حرية شكلية، فالمرأة رغم كل ما تحصل عليه، إلا أن حريتها ظاهرية لا تحسم اختياراتها فى الحياة، فهى مجرد حرية من الخارج، وما زالت نفسيتها أسيرة للماضى بعاداته وتقاليده وتصوراته.

كانت «رندة» تخشى أن يفوتها قطار الزواج، خوفًا من وصمها بالعانس، هذا الخوف الذى ما زال يعيش بيننا الآن ويسكن وجدان أغلب الفتيات، فهل اختلفت النظرة للمرأة كسلعة معرضة للبوار فى وقتنا هذا عن وقت نجيب محفوظ؟. 

أظن أن النفى هو أدق إجابة، وكان هذا يشغل نجيب محفوظ، وقد كرر هذا النموذج فى أكثر من رواية له، ففى رواية «خان الخليلى»، قدّم شخصية «نوال»، فهى فتاة عمرها ١٦ عامًا، جميلة ورشيقة ومتوسطة القوام، درست حتى الثانوية العامة ثم تركت التعليم بإرادتها، لأنها لم تر فى العلم سوى زينة تحلى بها أنوثتها وحيلة تغلى من مهرها، فكان هدفها الوحيد: البيت والزواج. 

نفس هذا النموذج تجده أيضًا فى شخصية «بهية» فى رواية «بداية ونهاية»، فهى رغم تعليمها لا تجد فى سعادتها وأمانها إلا الزواج والبيت فقط، فهل كان محفوظ يقر بأن المرأة عدو لنفسها.. أم أن تراكمات الماضى جاثمة على كاهلها لن تستطيع التخلص منها أبدًا؟

النصف الثانى فى بيت «العالمى»

على حسب ما يقوله الكاتب يوسف القعيد، فإن نجيب محفوظ كان «بيعز الستات جدًا»، أحب أول مرة فى حياته حين كان عمره ١٥ عامًا، أحب فتاة أكبر منه بخمس سنوات، كانت من عائلة ثرية، لكن ظل حبه لها صامتًا، يكتفى بالنظر فقط إلى وجهها الجميل، وبعد أن تزوجت، عصر الحزن قلبه، كما يقول، ومرت السنون وما زال حبه لها لم يهدأ أبدًا، وظلت آثاره عالقة بقلبه وذاكرته، حتى إنه جسد هذه القصة فى رواية «قصر الشوق»، متمثلة فى شخصية «كمال عبدالجواد». 

وعلاقة نجيب محفوظ بالجنس الآخر يعترف بها هو، فيقول إنها لم تكن تزيد على حد المداعبات التى تتجاوز الحد أحيانًا، وكانت هذه التجاوزات تصطدم بالإحساس الدينى عنده، يقول: «كنت أتوجه بالتوبة إلى الله يوميًا». 

تزوج نجيب محفوظ فى سن متأخرة، حين بلغ الخامسة والأربعين، ويقول عن ذلك: «كثير من زملائى الذين تزوجوا عن حب فشلوا، ولم أكن أحتاج إلى الزواج، كانت أمى تقوم بكل طلباتى من طعام وغسيل وكى، كانت حياتى منظمة، لكن عندما تعبت أمى، ألحت علىّ للزواج، فاقترحت علىّ قريبتها، إلا أننى رفضتها ووجدت أن فى زواجى منها شيئًا يمس كرامتى، لأن وضعها المالى كان أعلى منى بكثير».

وبالفعل دخل نجيب محفوظ عش الزوجية بعدما ازدهر عمله فى كتابة السيناريوهات والأفلام، وتزوج من السيدة عطية الله إبراهيم، وكان زواجًا محسوبًا عقلانيًا، قال عنه: «لم تنشأ قصة حب سابقة بيننا، فقط كنت فى حاجة إلى زوجة توفر لى ظروفًا مريحة تساعدنى فى الكتابة ولا تنغص حياتى».