رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أخطأ نجيب.. وأصاب نجيب! (1-2)

نجيب الأول ملقب بـ "ساويرس" رجل الأعمال، والثاني ملقب بـ محفوظ  صاحب نوبل!

- الأول قال :"الناس حره تسمع اللي عايزه تسمعه ..تسمع شاكوش تسمع  بيكا تسمع شطا ..تسمع رمضان هيه حرة"! والثاني قال : "النجارين والميكانيكية  والصنايعية  عايزين وهم  بيشتغلوا يسمعوا أغاني سريعة ، إيقاعها أسرع ، يلائم العصر ، فيسمعوا "نار ياحبيبي نار فول بالزيت الحار".. وهو  مقطع من أغنية  لـ "إمام الأصوات الشعبية أحمد عدوية.. وناظر مدرستها منذ بداية عصر زحمة يادنيا زحمة وحتي اليوم!
-كيف كانت مصر يوم ظهور  عدوية؟
-إمام الأغنية الشعبية ،الذي نافس الشيخ كشك والمحلاوي في عصر الإيقاع السريع هذا،  ولد عام ١٩٤٥.. ولكنه لم يظهر إلا  بعد النكسة بعامين ..جاء مغمورًا من شارع محمد على وهبط على سلم الشهرة والفلوس فى  ملاهي وكباريهات  شارع الهرم : اريزونا .. باريزيانا .. الأوبرج وغيرها من كباريهات شارع الهرم التي خلبت عقول وألباب الأثرياء العرب، بعد رحيل عبد الناصر. ومع بدايات انفتاح السادات بـ " سداحه ومداحه"، لمع وأصبح أسطورة .. كان "محمد رمضان" عصره ..  وشغل الناس  بثرائه السريع ،  وأسطول  سيارات التاكسي الذي امتلكة ، وكان بداية حلم كثير من المصريين في السبعينيات كاستثمار عظيم، وإشارتهم لامتلاكه أربع عمارات ، حتي إن روائيا كعبد العال الحمامصي تحدث عنها- بل وجعلها عنوانا -لـ مجموعة قصصية حملت  اسمه: "عدوية وأشياء أخرى".

 أشفق عبد العال على مثقفين لا يجدون مايأكلونه ، بينما مطرب  مثل عدوية يمتلك  فلوس متلتلة! نقد لاذع مثل الذي يوجه هذه الأيام للأرقام المليونية -أو المليارية- للاعبي الكرة،حتي لو لم ينجح منهم أحد،ولو كان مدفوعا فيه أكثر من ٩٠ مليونا كما الشحات،  أو ٧٠مليونا كما قيل عن محسن !
-عندما ظهر عدوية كانت هناك "أخبار" مصطفي أمين ومدرسته الخبرية الرشيقة، ومذاق روزا اليوسف المختلف.."المشطشط..المفلفل".. والأهرام الرصين بجلالة قدره ، برئاسة  تحرير "الأستاذ" هيكل ، وزيارات  آرثر  ميلر وأندريه جيد وفرديدريش دورينمات إليه.. وكتَّابه  العمالقة : محفوظ، وإدريس، وزكي نجيب ، ولويس عوض ، وأساطير الفكر والرأي آنذاك، ومن منبره كتب وصاغ توفيق الحكيم وثيقة" بيان الأدباء " الذي هز مصر عام ٧٢، مطالبا السادات بألا يتأرجح بين أعوام الحسم واللاحسم .. وحالة اللاسلم واللا حرب ..حتي هدرت المدافع  في أكتوبر ٧٣ .
-عندما ظهر عدوية كان المجتمع لا يزال متماسكا وقويا ومفعما بحيوية الثقافة والسياسة ورجال الدولة ..لم تؤثر فيه "عايدة الشاعر بـ "العتبة  جزاز والسلم نيلو ف نيلو  "، فأساطين الطرب وقتها كانوا لا يزالون بعافيتهم ،  عبد الوهاب والسنباطي والقصبجي وبليغ والموجي والطويل ومحمود الشريف .. ولم يكن  الإشعاع الثقافي والريادة المصرية قد انتقل بعد إلى  بلاد البترودولار.
-كانت أم كلثوم لا تزال جذوتها متوهجة، وسمعتها كفنانة شديدة الوطنية ، تغني في المتروبوليتان وتتبرع بأجرها للمجهود الحربي لا يزال له أصداؤه ، فيما كان حليم لا يزال يبيع ١٠ آلاف أسطوانة من أغانيه، وهو رقم قياسي لم يكسره سوى عدوية بعد ذلك عندما غني السح الدح أمبو وبيع منها ١٧٠ ألف أسطوانة ، وكان لافتًا أن  إعجاب حليم بها بلغ حدًا غير معقول،  فذات حفلة صعد على المسرح وسحب منه المايكروفون وغناها ، ورد عدوية التحية بأن غنى له  "خسارة خسارة" . كان عبدالوهاب لا يزال كما النهر الخالد .. وصحافة مصر طازجة .. ومراكز دراساتها - في الأهرام والبحوث الجنائية والاجتماعية وكلية الاقتصاد والعلوم السياسية  وغيرها- مفتوحة ، فيما يقف أزهرها عند حدود دوره كمنارة للدارسين ، ورسولا للدعوة الإسلامية في البلدان التي ما زالت تحبو في علوم القرآن الكريم ..ولم يكن قد بدأ يخوض صراعًا في أمور السياسة والدين ، كما  لم تكن تشتعل بعد الفتنة الطائفية.
-كانت  إبداعات سعد وهبة (سكة السلامة) والشرقاوي ( الحسين ثائرا وشهيدا)، وايزيس والسلطان الحائر  وبنك القلق لتوفيق الحكيم ،وأولاد حارتنا لمحفوظ، والمخططين والبهلوان ليوسف إدريس والنار والزيتون لألفريد فرج  والدخان و ليلة مصرع جيفارا لميخائيل رومان  والقضية للطفي الخولي، تضيء المسرح المصري .
- وكان هناك  النقاد الكبار: د. مندور والقصاص والقط ولويس عوض فاروق عبد القادر ورشاد رشدي ولحق بهم سامي السلاموني ورءوف توفيق.
- كان هناك صلاح أبوسيف ويوسف شاهين وحسين كمال ، وفاتن حمامة وعمر الشريف ..وسعاد حسني .. 
وكانت هناك سميحة أيوب ومحسنة توفيق  ومحمود مرسي  ومدبولي والمهندس    
 وكان هناك صلاح جاهين والأبنودي وأمل دنقل وصلاح عبد الصبور، فيما كان  نجم  حسن طلب ورفعت سلام يأخذ في البزوغ …كانت جماعة إضاءة في طور التشكيل حتي اكتملت في منتصف السبعينيات. وإن هي إلا أعوام حتي ظهر حزب يحمل اسم التقدم .. وأصدر باسمه نشرة التقدم وبدا أن مصر حتي وهي تنفض يدها من الكتلة الشرقية  الاشتراكية ، لتبدأ تحولاتها نحو الرأسمالية الغربية ، إلا أنها لم تنس أبدًا قضية الوعى والتنوير وقضايا التقدم والاستنارة .لم تتغير الذائقة المصرية كثيرًا ، لم يكن التشوه الوافد اليها مؤثرا على النسيج الأساسي ولم ينل من الوعى الجمعي.. إلى أن  جاءت أوامر  كيسنجر! وهنا توحدت  مصر والسعودية  ودول عربية ضد التقدم والاستنارة ، وكذا بدأ أول طريق نحو التفكك والظلامية!