رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الكيوف.. والعقل الباحث عن الغيبوبة

 

النسيان والرغبة فى التوهان من السمات الأساسية التى دمغت شخصية بعض المصريين منذ قرون عديدة. عوامل عديدة أسهمت فى ذلك، منها ضغوط الحياة والاستبداد الذى عاملهم به المحتل، الذى تدفق على البلاد منذ فجر التاريخ، ما دعا البعض إلى محاولة النسيان والبحث عن وسيلة تستطيع أن تغير مزاجهم المرهق، وتُسكت عقلهم النشط فى استدعاء المعاناة والتذكير بالمأساة، لتدخلهم فيما يشبه «الغيبوبة» ووجدوها فى «الكيوف».

كان من الطبيعى أن تكون الكيوف جزءًا من حياة بعض المصريين.. حدثتك عن القهوة والفتنة التى ارتبطت بها، بعد أن اختلفت فتاوى المشايخ حول حلها أو حرَّمتها، وكيف أن الجدل تم حسمه لصالح إباحة هذا المشروب الذى أصبح جزءًا من حياة المصريين، ثم ظهر «التبغ» فعشقه الكثيرون، وأصبح تدخين الشبك من العادات الأساسية لدى الكثيرين، وكان ذلك أوائل القرن السابع عشر الميلادى.

اختلفت وجهات نظر المشايخ حول تدخين «الشبك» كما اختلفت حول القهوة، وقد كتب أحد الولاة فى ذلك الوقت فرمانًا بتحريم التدخين، وكان يحكم على من يتم القبض عليه وهو يدخن أن يلتهم حجر الشبك ومحتوياته المتلهبة، ورغم ذلك لم يتوقف الناس عن التدخين، ثم ظهرت أنواع جديدة من الكيوف التى لم يستعل حولها الجدل، كما كان الحال فى القهوة والتبغ.

لم يكن هناك جدل كثير حول «الحشيش»، فقد تم تحريمه منذ ظهوره، لكن بعض المصريين ضربوا بالفتاوى عُرض الحائط، فأصبح هذا النبات جزءًا من «الكيف المصرى» خلال عصر الوالى محمد على، أوائل القرن التاسع عشر، وكان وقتها يدخن فى «الجوزة»- كما يقرر «وليم لين» فى كتابه «المصريون المحدثون- فيسحب المدخن أنفاسًا سريعة ثم نفسًا طويلًا يخرجه من الفم والأنف ويتبعه بنوبة سعال، ينشأ من امتلاء الرئتين بالدخان. وكان الحشيش حينذاك يباع فى المقاهى، وفى محال صغيرة خصصها أصحابها لبيع الحشيش، ويطلق على الواحد منها «محششة». وبعد الحشيش عرف المصريون الأفيون، لكنه لم ينتشر بين أوساط المصريين، كما انتشر الحشيش بسبب غلاء ثمنه.

وقد دخلت عادة مضغ أوراق القنب إلى مصر منتصف القرن الثالث عشر الميلادى. فأولع بها، على الأقل، أفراد الطبقة الدنيا. على أن كثيرًا من أفاضل رجال الأدب والدين استسلموا لإغرائها وأيدوا جوازها للمسلمين. وقد انتشرت هذه العادة بين الطبقات السفلى فى العاصمة وفى غيرها من مدن مصر. ويثير الحشيش المعد للتدخين طربًا شديدًا وهو يدخن فى الجوزة. ويسمى آكل الأفيون أفيوينًا ويعتبر هذا الوصف أقل مهانة من كلمة حشاش، إذ إن كثيرًا من أفراد الطبقتين الوسطى والعليا تصدق عليهم هذه التسمية».

امتاز «كيف المخدرات» منذ ظهوره فى حياة المصريين بدرجة واضحة من الطبقية، كان الحشيش سلاح البسطاء من الفقراء والسفلة فى إسكات عقولهم وضمائرهم، والتحليق بعيدًا عن مشكلاتهم لبعض اللحظات، ثم يسقطون على وجوههم ليصافحوا مشاكل أكبر فى واقعهم. أما الأعيان والأغنياء فقد وجدوا فى الأفيون ملاذًا لهم، ولأن الكبير كبير والصغير صغير، فقد أصبح وصف «حشاش» أشد وطأة على النفس المصرية من وصف «أفيونجى». ففضلًا عمَّا فى الوصف من دمغ لصاحبه بالفساد الأخلاقى، فإنه يحمل أيضًا وصمة طبقية بالانتماء إلى فئة «فقراء الكيف». هذا الطابع الطبقى ظل- ويبدو أنه سيظل أيضًا- مصاحبًا لرحلة المصريين مع الكيف. 

أما سكة «البوظة» فكانت الأنسب بالنسبة لغير المدخنين، وهى عبارة عن شراب مخمر، وتصنع من الشعير وشاع استخدامها، كما يصف ويليام لين، بين ملاحى النيل وآخرين من الطبقات السفلى فى مصر. والمضحك أن البعض اعتبرها بديلًا للخمر التى حرمها القرآن، ونصح النبى، صلى الله عليه وسلم، بالابتعاد عن حاملها وشاربها ومجالس تعاطيها.

وفى سياق تبريره لشرعية تعاطى الحشيش والأفيون والبوظة بادر «صاحب الكيف» بما يملك من قدرات خاصة على التبرير إلى الحديث عن دور هذه المشروبات فى تنشيط جسده وإنعاش نفسه وتحسين حالته المزاجية، خلافًا للخمر التى تذهب بالعقل والوعى، وكأنه أراد أن يقول إن تناول المخدرات فضيلة تساعد على تنشيط الشخص للعبادة!

قصص الحشيش والأفيون وحكاياته لا تنتهى داخل الكتب التى وصفت حياة المصريين خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. الروائى الراحل عبدالمنعم شميس واحد ممن التفتوا إلى التأريخ لأوضاع الحشيش والحشاشين فى مصر، خلال هذه الفترة.

يقول «شميس» فى كتابه «مقاهى الفن والأدب»: «الحشيش والأفيون كانا من المخدرات المعروفة فى مصر قبل ظهور الكوكايين فى الحرب العالمية الأولى، واعتقد بعض المصريين أن الحشيش ليس محرمًا مثل الخمر، ولا أدرى من الذى أفتاهم بذلك. ولم تكن عقوبة تحريم الحشيش من العقوبات الجسيمة فى الجيل الماضى، بل كان يكتفى بإغلاق المقهى الذى يقدمه للزبائن لمدة محدودة. كما كانت للحشاشين أماكن خاصة يجتمعون فيها، ويطلقون عليها اسم غرزة، وهى مكان حقير لتدخين الحشيش. أما الأفيون فقد كان مباحًا فى الجيل الماضى، وكان يباع فى بعض الدكاكين الصغيرة، وقد شاهدت دكانًا منها فى عابدين، وكان صاحب الدكان يزنه بميزان صغير جميل مثل ميزان الذهب، وكانوا يستخدمونه فى علاج بعض الأمراض على أنه من الأدوية الشعبية، كما كان الأفيونجية يستخدمونه كمخدر».

ثمة نظرة إلى المخدرات ترى أن «الحشيش والأفيون» مخدرات مصرية أصيلة، وأن ما عداها من مخدرات ثقيلة، مثل الكوكايين أدخلها الغرب إلى مصر بهدف هدم صحة وعقل المصريين، فعبد المنعم شميس يشير إلى أن «الكوكايين» دخل مصر وهى ترزح تحت نير الاحتلال الإنجليزى. ولو أنك راجعت مذكرات الفنان إسماعيل ياسين، التى تحولت بعد ذلك إلى مسلسل إذاعى قام ببطولته الفنان إسماعيل ياسين، وكتبه رفيق عمره السيناريست أبوالسعود الإبيارى، فسوف تجد مسمعًا يتحدث فيه إسماعيل ياسين عن تعاطى أبيه مخدر الكوكايين الذى جلبه الاستعمار حتى يغيب المصريون عن واقعهم المرير «المسلسل أنتج بعد ثورة يوليو ١٩٥٢». 

فكرة توظيف «الآخر المستعمر» المخدرات بهدف إلهاء المصريين هى الفكرة الأم التى يتفق عليها أغلب الكتابات والآراء المفسرة لشيوع المخدرات بين أوساط المصريين. يستثنى من ذلك بالطبع مخدر «الحشيش» الذى يثبت البحث التاريخى أنه كان أسبق لدخول مصر قبل الإنجليز.

المستعمر هو المسئول.. أما المواطن فبرىء براءة الذئب من دم ابن يعقوب.