رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«هلاوس».. ساعة من الصمت الصاخب!

يتطلب الأمر قدرات شديدة الخصوصية وتميزًا نادر الوجود لكافة العناصر بلا استثناء لتقديم عمل فني مسرحي كامل بلا جملة حوار واحدة.

يتطلب كذلك الكثير من الموهبة، والأكثر بكثير من الدقة والاجتهاد وتكريس الحواس والإحساس قبل تكريس المجهود العضلي والبدني. 

منذ أن شاهدت عرض "ديچاڤو" للمخرج المسرحي الواعد محمد عبدالله، على خشبة الهناجر، منذ حوالي عام، وأنا أنتظر بجم التوقعات والآمال عمله القادم.

محمد عبدالله مخرج شاب يمتلك من خبرة السنين بالعدد والأرقام القليل لكنه وعلى الأرض ذو عينٍ حساسة ورؤية نافذة ومحبة عظيمة لما يقدمه وما يود أن يوصله عبر ما يقدم. 

ومن جديد يعود محمد عبدالله الى خشبة مسرح الهناجر بدار الأوبرا المصرية ليقدم "هلاوس"، والمعلن، وقبل أن تخوض كمشاهد التجربة وتخبر الإحساس بنفسك، هو أنه عمل مسرحي مأخوذ عن الرواية الشهيرة لأبوالدراما ويليام شكسبير "تاجر البندقية"، قد لا تتوقع الكثير حينما يذيّل بوستر العرض المسرحي بتلك العبارة وتشعر أنه تناول جديد من حيث العصر والسنين لكنه مألوف ومعروف و"مهروس" من الكثيرين من قبل، ليس في مصر فقط بل حول العالم أجمع. 

فـ«تاجر البندقية» واحدة من أشهر أعمال شكسبير، والتي تم تناولها أو حتى اقتباس تيماتها الرئيسية في آلاف الأعمال سينمائيًا وتيفزيونيًا، وبالطبع مسرحيًا، في كل مكان في العالم.. حسنًا هل أصبت جزئيًا بالإحباط وشعرت أنه لا جديد إذن تحت الشمس؟ دعني أفاجئك وأشحن فضولك إذ إنه ليس صحيحًا ما شعرت.. هناك جديد تحت الشمس.

 فالعرض الذي اختار عبدالله أن يقدمه ليكون عمله الأحدث، واختار له باقة من المبدعين- وباقة هنا ليست من معتاد الكلمات أو كليشيه مستهلك بل هم باقة بالفعل في كافة العناصر- العرض الجديد يندرج بالكامل تحت مظلة "المايم"، الذي نسيناه كجمهور متفرجين لقلة بل ندرة من اهتم به أو مارسه أو قدمه في عمل منذ زمن.

والمايم هو ببساطة وبلا نظريات أكاديمية هو التمثيل الصامت.. التعبير عبر الإشارة والحركة ولغة الجسد بلا حوار منطوق.. تخيل أن تجلس في قاعة مسرح لمدة ساعة كاملة لتشاهد عرضا بلا حوار، ليس مجرد سكيتش قصير أو لقطة أو مشهد على سبيل التنوع؛ بل العمل بالكامل.. وكانت المفاجأة الأكبر والأسعد أنه لم يتسرب إلىّ الملل للحظة واحدة وأنا أتابع العرض، وعقلي يعمل بشكل ديناميكي سريع جدًا لالتقاط الرسائل والمعاني وفهم ما يدور أمامي بلا أن يخبرني أحد ببساطة وعبر الحوار المسرحي التقليدي شديد المباشرة عن الموقف الذي يؤديه أبطال العمل أو مغزاه أو رسالته.

هم يتحركون في هارموني واضح وتعبير حركي شديد الدقة، بدا لي أنه أخذ مجهودًا جبارًا ليطلوا به على جمهورهم بهذا المستوى من الدقة والاتقان.

وقد يبدو لعمل كهذا أن قدرات الممثلين وأداءهم هما العنصران الوحيدان القادران على إنجاح تجربة صعبة كهذه، لكن الحقيقة أن كل عناصر العرض أدت دورًا لا يقل أهمية، وبالذات عناصر الملابس والإضاءة والديكور التي كانت تمثّل مع الممثلين بلا مبالغة.

النجوم الشباب الذين أدّوا بجهد وتركيز شديد أدوارا صامتة لكنها صاخبة ومجلجلة في تأثيرها كانوا أمام اختبار صعب اجتازوه بنجاح واقتدار، فالممثل المسرحي هو ممثل المباشرة.

كل شيء على المسرح يجب أن يكون مباشرا وواضحا وموجها، ولكنهم طولبوا في "هلاوس" بأن يوصلوا كل ما يجب أن يصل لجمهور القاعة بلا كلمة واحدة، وفعلوها.. مصطفى حزين، معتصم شعبان، نسمة عادل، وعبدالله سلطان ممثلون يستحقون فرصًا أكبر والتفاتًا أكبر من صناع الدراما في مصر؛ لأنهم وغيرهم من نجوم عرض «هلاوس» لديهم من القدرات التي يحفزها ويحمسها ويصقلها الشغف ما يؤهلهم لمستقبل يبدو لى الآن شديد الإشراق.

 المسرحية مستمرة حتى السبت 11 سبتمبر على مسرح الهناجر بالأوبرا، وهي فرصة لكل محبي الفن بشكل عام والمسرح بشكل خاص للاستمتاع بساعة كاملة من الصمت الصاخب المثير.

جانب من عرض
جانب من عرض "هلاوس"
جانب من عرض
جانب من عرض "هلاوس"
جانب من عرض
جانب من عرض "هلاوس"