رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأمة التى نسيت الإسلام

أنا الآن فى شهر رمضان الكريم، أجلس وحدى غالبًا، أتدبر آيات القرآن الكريم، أتدبر سيرة الرسول النبى محمد، عليه الصلاة والسلام، مما ورد عنه فى القرآن الكريم، فلم أره قاتلًا أو غازيًا أو مدمرًا، ولكننى وجدته رءوفًا رحيمًا هاديًا، وجدته على خلق عظيم، هكذا قال الله عنه فى كتابه الكريم، فأدركت الجناية التى جناها من كتبوا السير والمغازى، فقد جعلوا من النبى قاتلًا، وروى أهل الحديث عنه أحاديث منكرة لا يمكن قبولها بأى شكل وعلى أى حال، فقد جعلوه قاطعًا للطريق، يقول إن رزقه تحت ظل رمحه، وينسبون له أنه طلب منا أن نقاتل الناس كلهم حتى يشهدوا بأن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، ثم يقيموا الصلاة، ويؤدوا الزكاة بعد ذلك، فأوهموا الناس أن الشهادة بوحدانية الله يمكن أن تكون تحت ظل السيف، ورهبة وخوفًا من الموت، فجعلوها شهادة مزورة مزيفة، وهى شهادة الأحرار، وجعلوا الشعائر ينبغى أن تقام غصبًا مع أن الله قال «لا إكراه فى الدين» والمعنى واضح، هو أن هذا الدين ليس فيه إكراه.

وظلت غالبية المسلمين يؤمنون بالسيف وجعلوه شعارًا لهم، يفتخرون به، ويفتخرون بما أطلقوا عليه الفتوحات، ويقول كبار العلماء فى عصرنا إن السيف جعلنا نضع قدمًا فى الأندلس وقدمًا فى الصين، وليتهم قالوا إن القرآن جعلنا فى الصين والأندلس، ولكن القرآن فى قلوب هؤلاء العلماء أضعف من أن يكون هو الراية، أو أن يكون هو نداء الدعوة والهداية، مع أن الله قال عنه إنه «هدى للمتقين».

وسبحانك ربى سبحانك، لقد رأيت وأنا أجلس وحدى أن أكتب حول أمة المسلمين، تلك الأمة التى أطلقوا عليها زيفًا أنها أمة الإسلام، وما هى بأمة الإسلام، ولكنها أمة من المسلمين، وينبغى أن نفصل الإسلام عن سلوك الناس، أما عن النبى الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه لم يمت، فأصحاب الدعوات لا يموتون، بل تظل حياتهم تتردد بين جدران الزمن لا تغادره أبدًا ما بقيت دعواتهم، والإسلام سيظل إلى يوم الدين، أما عن الموت الذى يترتب عليه فناء الجسد فلا ضير فيه، فالله سبحانه قال «إنك ميت وإنهم ميتون» وهو أيضًا القائل «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ» وسبحان رب العزة، فعندما قرأت هذه الآية قلت فى نفسى: لماذا لم يحدد الله فى هذه الآية طريقة انتهاء عمر النبى؟!، إذ قال «أفإن مات أو قتل» أى أنه فى القرآن وارد أنه سيموت كما يموت الناس على أسرتهم، ووارد أن يقتله أحدهم! المعنى الذى وصلت إليه أن الله لم يرد أن يخبر النبى بطريقة انتهاء عمره، فهذا غيب غيبه الله عنه، ألم يقل له فى كتابه الكريم «قل ما كنت بدعًا من الرسول وما أدرى ما يفعل بى ولا بكم»، وفى القرآن أيضًا «ولا أقول عندى خزائن الله ولا أعلم الغيب»، ولأن الله لم يخبر النبى بموته موعدًا وطريقة، لذلك قال فى كتابه الكريم «أفإن مات أو قتل» لتكون طريقة موته مخفية عنه، وقد تظل مخفية عنا أيضًا.

الآن أطلب منكم أن تنظروا إلى المستجدات التى أحدثها أهل الأزمنة الماضية والحالية فى الدين، كلنا اشتركنا فى هذا التبديل والتغيير وكأننا نريد أن نقتفى أثر الأمم السابقة وطريقة تعاملها مع رسلها وأنبيائها، هل تصدقون أنهم ينسبون إلى النبى عليه الصلاة والسلام حديثًا يزعمون فيه أنه قال عن الله: «رأيت ربى فى صورة شاب أمرد جعد عليه حلة خضراء»! ما أفظع هذا التقول على رسول الله، جعلوه يُجسِّم الله، أى يجعل له جسمًا وحيزًا ومكانًا، ثم يقف من يدعى السلفية لكى يدافع عن هذا الحديث ويقول فى نطاعة: إنها رؤية منامية، يا لك من نطع يا رجل، ألا تعرف أن رؤيا الرسول حق، وألا تعرف فى ذات الوقت أن الله «ليس كمثله شىء» فكيف تجعل الله فى رؤيا الرسول مثل الأشياء، شاب أمرد له صفات بشرية.

أما الطامة الكبرى فقد جعلوا النبى محاربًا لكل البشر، ليس له أى عمل إلا مضاجعة زوجاته! حتى إنه بهذه المثابة أصبح لا وقت لديه للدعوة، ومن هذه الادعاءات الباطلة ألحد عدد كبير من الشباب صغار السن، ممن ظنوا أن هذه المزاعم صحيحة، كذبت يا من قلت هذا، ولا أراك إلا وغدًا أثيمًا، أيصل بك النفاق إلى درجة أن تنسب للرسول أنه أراد أن يراود امرأة عن نفسها! لا تتعجبوا!! لقد قالوا عن النبى ذلك، وأوردوا هذه الفرية فى كتب أطلقوا عليها كتب صحاح الحديث، مثل البخارى ومسلم، وأخذ السلفيون يدافعون بكل قوتهم عن حديث باطل أورد هذا الكذب، والمؤسف أن الذى أورد هذا الحديث جمهرة من رواة الأحاديث، وعلى رأسهم البخارى، وقد جاء هذا الحديث عن صحابى اسمه أبى أُسيد ونصه هو: «خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى انْطَلَقْنَا إِلَى حَائِطٍ يُقَالُ لَهُ الشَّوْطُ، حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى حَائِطَيْنِ، فَجَلَسْنَا بَيْنَهُمَا، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: اجْلِسُوا هَا هُنَا. وَدَخَلَ وَقَدْ أُتِىَ بِالْجَوْنِيَّةِ، فَأُنْزِلَتْ فِى بَيْتٍ فِى نَخْلٍ فِى بَيْتٍ أُمَيْمَةُ بِنْتُ النُّعْمَانِ بْنِ شَرَاحِيلَ، وَمَعَهَا دَايَتُهَا حَاضِنَةٌ لَهَا، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِىُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: هَبِى نَفْسَكِ لِى. قَالَتْ: وَهَلْ تَهَبُ الْمَلِكَةُ نَفْسَهَا لِلسُّوقَةِ. قَالَ: فَأَهْوَى بِيَدِهِ يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهَا لِتَسْكُنَ. فَقَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ. فَقَالَ: قَدْ عُذْتِ بِمَعَاذٍ. ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: يَا أَبَا أُسَيْدٍ اكْسُهَا رَازِقِيَّتَيْنِ وَأَلْحِقْهَا بِأَهْلِهَا».

المضحك أن هذه القصة الباطلة رواها أبى أسيد، وقد كان وقت وجود النبى المزعوم مع أميمة خارج الدار، أى لم يكن معه، ثم قص علينا القصة دون أن يقول أخبرنا رسول الله بأنه لما دخل عليها حدث كذا وكذا! ثم هل يتصور أحد أن الذى قال الله عنه «وإنك لعلى خلق عظيم» يقول لامرأة ما «هبى نفسك لى»! فتنفر المرأة، فيقترب منها ليضع يده عليها لتهدأ، فتقول له أعوذ بالله منك!! ما هذه الأباطيل التى نسبوها للنبى الشريف العفيف الحيى صاحب الخلق العظيم!!، الحقيقة أنهم لم يسيئوا للنبى فقط، ولكنهم أساءوا للإسلام كله وقدموا عنه للبشرية صورة مشوهة ونموذجًا مرفوضًا لا علاقة له بالإسلام الحقيقى.

وفوق هذا وذاك فإننا نرى فى زمننا وواقعنا من يرفع شعار الإسلام ثم يمارس القتل والتنكيل والكذب والخداع، لا يأبه للدماء، ولا يُعظم الحرمات، ولا يتجنب المحرمات، ثم يستمر فى رفع الشعار حتى يوهم البسطاء بأنه من رجال الله الذين يريدون تطبيق شريعته، وما كان رفع الشعار يغنى عنهم من الله شيئًا، فالله ينظر إلى الأفعال «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»، فليقل من يرفع الشعار ما يُحب، فالكلام قد ينطلى على البسطاء أصحاب المشاعر الجياشة، الذين تطغى مشاعرهم على عقولهم فلا تترك لها مجالًا للتفكير، لم يفكر أصحاب المشاعر التى لم يضبطها العقل فى الفارق بين الدين والتدين، الإسلام والمسلم، فمنهج الإسلام يختلف عن منهج هؤلاء.

نحن الآن بعد مرور أربعة عشر قرنًا أستطيع أن أقول إن معظمنا فى زمننا، إلا من رحم ربى، ينتمى إلى الإسلام بالميلاد، ولدتنا أمهاتنا فوجدنا أنفسنا مسلمين، ومعظمنا يقيم الشعائر التعبدية، إلا أننا نقيمها شكلًا ورسمًا، لأنها أصبحت عادة لا بحسبها عبادة! فنحن نصوم رمضان.. عادة، ونصلى الصلوات الخمس.. عادة، ونذهب للحج والعمرة.. عادة، وهكذا، ولكن يبدو أن مرور أربعة عشر قرنًا على نزول الإسلام جعلتنا ننسى الإسلام نفسه.