رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السم والعسل في فيلم 200 متر


السم والعسل في فيلم 200 متر والذي يحمل اسم فلسطين في حين أنه يصطف مع ما تريده اسرائيل قلبًا وقالبًا بمكر ودهاء كشفه مشهد واحد في الفيلم لا يتجاوز الدقيقة..عرض الفيلم في عرضه العالمي مهرجان الجونة السينمائي في دورته الاخيرة ثم عرض ضمن برمجة اسابيع الافلام التي تقدمها دار عرض (زاوية) الاستثنائية والتي فتحت لنا آفاقًا جديدة من المشاهدة والمتع البصرية وتقديم أفلام مغايرة تختلف عما هو سائد ولم يكن يتنسى لنا مشاهدتها لولا وجود تلك الشاشة التي بدونها نتعطش جميعا ونحرم من مشاهدة ما لا يمكننا ان نجده في اي دار عرض سينمائية اخرى وتقريبا بنصف الثمن الذي نجبر جميعا لدفعه في غيرها من دور العرض.

و سأبدأ في طرح رؤيتي لرسالة الفيلم واختياري لعنوان المقال.. فالعسل يكمن في جودة وجدية العمل وتقديم فيلم سينمائي رائع فنيًا وملىء بالتفاصيل الانسانية العذبة بذكاء تكشف لي فيما بعد انه (مكر شديد) ربما لن يلتفت له كثيرين.

و لا ادعي بالطبع علمي باليقين والحقيقة المطلقة والاطلاع على النوايا والسرائر ولست وبكل تأكيد الاذكى على هذه الأرض ولا أحاكم صناع العمل ولا أحكم عليهم فقط أقدم طرحي وقرائتي والرسالة التي وصلتني بعد مشاهدة الفيلم.

و انكشف لي توجه صانعيه من خلال مشهد واحد كان كافيًا وشافيًا وكاشفًا لكل شيء واصبحت من خلاله رسالة الفيلم شديدة الوضوح.

و قبل التطرق للمشهد المركزي الذي يتهم فيه بطل العمل شخصية الفلسطيني في الفيلم بمعاداة السامية !
تلك التهمة الجاهزة ذات المفعول الاكيد والتي يتذرع بها الاحتلال الاسرائيلي دومًا لكسب التعاطف والتأييد لتبرير ممارساته الوحشية وشيطنة الفلسطينيين المحتلين وسأسرد لكم في بعض سطور حكاية الفيلم والتي كانت مجرد مقدمات لنصل لذلك المشهد المركزي الذي سيق كل ما قبله بل وما بعده فقط لينطق بطل العمل بما قاله وليوجه اتهاماته الآنفة للفلسطيني منتصرًا بكلماته للفتاة ابنة الاسرائيلي إذ قال لابن بلده الفلسطيني نصًا ( بدك تنتقم منها لانها يهودية ) !

وهنا يزج بطل العمل وكاتبه بالدين في ذلك الصراع الازلي الذي هو صراع سياسي انساني في المقام الاول وليس صراعًا دينيًا كما يحلو للبعض أن يروج ! صراع بين كيان محتل وشعب بلا جيش ورغم ذلك عمد الكاتب وصناع العمل على تديين ذلك الصراع !!

بالطبع لإدانة الفلسطيني وتبرئة الاسرائيلية !!

باختصار يحكي الفيلم عن بطله العامل الفلسطيني -صعب المراس - الذي يعيش مع أمه في الضف الغربية ويرفض -بتعنت - العيش مع زوجته وأبنائه في إسرائيل.

وبعد مكالمة من زوجته التي تلومه دومًا على عناده وتركه لهم لتخبره ان ابنهما صدمته سيارة وانه بالمستشفى ليهرع اليها متسللا للحاجز الذي يفصل بين الضفة واسرائيل ( فلسطين المحتلةً) بشكل غير شرعي لأن الشرطة الإسرائيلية عاقبته على إهماله وعدم تجديده للكارت الذي بلي بسبب عوامل الزمن ويلزمه التجديد فلجأ لرحلة غير شرعية ليصل لأسرته.

وفي رحلته لعبور الحاجر الذي يفصل بين الضفة والاراضي المحتلة يجتمع في الباص غير الشرعي بغيره من المتسللين العابرين غير الشرعيين وتحدث بينهم مواقف إنسانية لطيفة توصلنا للمشهد الذي وصفته بالمركزي حيث يجتمع فيه بطل العمل مع شاب فلسطيني جاء مع حبيبته المخرجة الالمانية ( هكذا كان يظنها ) لتصور معاناته كفلسطيني يريد عبور الحاجز وبشكل أراه غير مبرر جعل كاتب ومخرج العمل ( أمين نايفة) الشاب الفلسطيني يكذب على رفاقه في الرحلة غير الشرعية ويقول لهم ان حبيبته المانية أبيها من مدينة (عكا ) اي من أصول فلسطينية وان أمها ألمانية ليطمئن الجميع لها ويتحدثون معها بأريحية ثم تكشف لنا الأحداث لاحقًا ان تلك الحبيبة أبيها اسرائيليًا وانها تتحدث العبرية بطلاقة.. وعندما يصدم فيها حبيبها الفلسطيني بعد ان اخفت عنه هويتها الحقيقية ويطلب منها ان تعطيه الكاميرا ( التي لم يحطمها مثلا ولم يمسح ما بها ) بل ولم يمارس ضدها أي عنف هو فقط لا يريد ان تروج مخرجة اسرائيلية لرحلة معاناة الفلسطينيين من منظورها الخاص.. ولان ما صورته -بالغش والخديعة - يدين الجميع بالطبع بل ومن الممكن أن يزج بهم للسجن ! ورغم كل ذلك
نرى بطل العمل فجأة وبدون مبرر يعنف ابن بلده الفلسطيني ويتهمه كما سبق وأوضحت بمعاداته للسامية ورغبته في الانتقام من الفتاة اليهودية !

وهنا يخلط البطل بشكل قصدي ومتعمد ومغرض ما بين اليهود والصهاينة ( الاسرائيليين )
بل ويخلط الدين بالسياسة ! ولا أدري حقيقةً ما الذي حشر الدين في صدمة الحبيب في حبيبته التي خدعته وكذبت عليه واكتشف انها اسرائيلية ؟!

فالحبيب الفلسطيني قد وثق فيها وصدق روايتها وأحبها وساعدها في انجاز فيلمها التسجيلي عن معاناته ظنًا منه انها المانية تتعاطف مع معاناة الفلسطينيين وليست اسرائيلية ستظهر حتمًا في فيلمها الفلسطينيين خارجون على القانون وهمج وكاذبون يمارسون العبور غير الشرعي للحاجز الذي يفصل جزءًا من بلادهم عن جزئها الاخر بسبب الاحتلال الاسرائيلي !

و ما يؤكد على مكر صناع العمل -من وجهة نظري - هو إظهاره للحبيب الفلسطيني في صورة الكاذب لتتساوى الرؤوس ويضيع الحق ويصبح كلاهما مدان ! إذ ساق الفلسطيني قصة ملفقة تخص أصول حبيبته الفلسطينية، ولكن هل حقًا تستوى كذبتها مع كذبته ؟!

سيعتقد البعض انه نعم وسيتشدق البعض الاخر بالطبع بان الكذب كذب وان كلاهما قد مارس خطيئة الكذب، وهذا صحيح ولا يستطيع نكرانه أحد ولكن كذب الحبيب الفلسطيني قد مارسه على رفاقه في الرحلة الذين لا يعرفهم ولن يلتقيهم مرة اخرى فما جمعهم هو مسيرة الهروب غير الشرعي وكذب عليهم ليسهل مهمة انجاز حبيبته لفيلمها.

نعم لقد كذب الفلسطيني في الفيلم ولكنه فعل ذلك ليحمييها ويساعدها وليتعاونوا جميعًا معها ويظل ما فعله مذمومًا وغير اخلاقي ولكن عذرًا لن أراه مساويًا لجرم من كذبت على حبيبها واخفت هويتها عنه
و خدعته واستغلته لتصوير فيلمها الذي يدينه ويدين من معه وقد يعرضهم جميعا للمحاكمة والسجن او ربما القتل.

فإن أراد كاتب العمل ومخرجه ومنتجته المساواة بين الكذبتين وأن الفلسطيني كاذب شأنه في ذلك شأن الاسرائيلية فذلك في رأيي ومن منظوري هو عين الفجر والافتئات.

والسؤال ؛ لمن يجب علينا أن ننتصر إن أردنا الاختيار او الانتصار لأحدهما ؟ فقد جعلنا بل ووضعنا صناع العمل بين شقي الرحى وساوى بين الطرحين والطرفين ويريد منا أن ننحاز لاحدهما او ربما يريد منا أن نقبل كليهما تحت دعاوى السلام والسلمية وقبول الاخر وان تكون العلاقة بين الاثنين طبيعية ( تطبيع ) فكلاهما بشر يكذب ويخطأ.

وبالطبع جميعنا بشر ويخطأ ولكن هل يستوي وهل يمكن أن نساوي بين من يخطأ ويكذب ليساعد حبيبته ومن تكذب وتخدع حبيبها وتخفي عنه هويتها وتعرضه بفيلمها هو ورفاقه للمساءلة القانونية وتثبت عليهم جريمة هروب وتسلل مصورة تعد في ذاتها دليل إدانة لهم وفي النهاية تعرض فيلمها من وجهة نظرها كإسرائيلية دون أن تفصح لحبيبها ومن ساعدها عن هويتها الحقيقية بمنتهى الشفافية ؟؟!
و في حقيقة الامر الاختيار والطرح هنا فيه اسقاط على شعبين وليس مجرد حبيب فلسطيني كاذب وحبيبة اسرائيلية خدعت حبيبها.

الطرح فيه إسقاط - من وجهة نظري - على الفلسطينيين من ناحية وعلى الاسرائيلييين من ناحية أخرى فلمن ننحاز ؟ وهذا هو السؤال الحقيقي والطرح الذي قدمه الفيلم لتجريم الاثنين لتتساوى الرؤوس.. ومن ثم يعنف الفلسطينيين ويتهمون بمعاداة السامية وعدم قبولهم للاخر وعدم التطبيع معهم !

فهل يلام المحتلة أراضيهم لانهم لا يريد التطبيع مع من قتلهم وشنقهم ومن سجنهم وطردهم من بيوتهم ومارس المجازر في حق أهاليهم ووضع بنفسه حاجز وقانون يفصل اهل منطقة عن الاخرى بينهما فقط ٢٠٠ متر ؟!

لقد توصلت لرسالة الفيلم ولا أفرضها كحقيقة مطلقة على أحد ولكن ماذا عن الباقين ؟ وهم بالطبع احرار في انحيازهم، ولكن لمن ستنحازون ؟

للضغيف ام للقوي ؟ لمن دفع اثمان باهظة وقدم دماء اكثر وشهداء اكثر.

لمن ليس لديه جيش يدافع عنه بل اطفال يحملون حجارة في أيديهم ؟ وانا أتحدث هنا عن الشعب.. شعب فلسطين -لا عن الفصائل الاسلامية المسلحة - التي أوجدتها اسرائيل لتبرر مذابحها وعدوانها واحتلالها ثم تطلب تطببعًا وتتشدق بالسلام والانسانية.

انا وبشكل شخصي سانتصر للضعيف ولن انتصر للقوة الغاشمة والجيش المعتدي المسلح
تماما كما انتصرت وسأظل أنتصر للأرمن ولشعارهم ( أتذكر وأطالب ) فكما يتذكر ويطالب الأرمن باعتراف وتعويضات ممن اعتدى ويحاربون من اجل أراضيهم المغتصبة.. فمن حق الشعب الفلسطيني ان يطالب المحتل الاسرائيلي باعتراف واعتذار وتعويض والتزام بالمعاهدات وقرارات الامم المتحدة والعودة لحدود ما قبل ١٩٦٧.

قبل ان يحدثنا صناع فيلم ( ٢٠٠ متر ) عن معاداة السامية ويطلب مساواة وتطبيع مبطن في عمل فني جيد ذو رسالة ماكرة مغرضة.