رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«بيوت دعارة» و«كوليرا».. رحلة هيكل مع التحقيقات الصحفية

محمد_حسنين_هيكل
محمد_حسنين_هيكل

5 سنوات مرّت على وفاة الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل الذي غيّبه الموت عن عالمنا في 17 فبراير 2016 عن عمر ناهز الـ93 عامًا بعد صراع قصير مع المرض، فكانت حالته الصحية قد تدهورت خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة بعدما أصيب بفشل كلوي.

مسيرة «الأستاذ» حافلة بالإنجازات استطاع أن يحققها هيكل خلال فترة عمله السياسي والصحفي إلى أن أصبح أحد أشهر الصحفيين العرب والمصريين في القرن العشرين، فضلًا عن دوره الكبير في صياغة السياسة في مصر منذ فترة الملك فاروق، وحتى وفاته.

في مقال للمفكر طارق البشري نشر بمجلة "الهلال" في سبتمبر 2000، تحدث فيه عن الفكر السياسي لهيكل، قائلًا: إنه فكر متحرك ومتفاعل مع ظروف تاريخية متغيرة، فيلزم متابعته في إطار سياقه التاريخي السياسي، وتبين مراحله في ملامحها العامة، وأوضاع تعامله مع ظروف الزمان والمكان، فما من فكر سياسي إلا وجبت دراسته في إطار تعامله مع تلك الظروف.

لم يغفل المقال أيضًا، الحديث عن الجانب الصحفي لهيكل الذي قال عنه: وهيكل صحفي، بمعنى أنه مَعني بالأحداث وبالإخبار عنها يكتشفها ويتحقق منها ويذيعها والعلاقة بين الخبر والفكر لا يمكن فصلها خاصة في مجال السياسة، ذلك أن الخبر هو ما يتحدث عنه "هو عن حدث"، والحدث فعل وقع، والإخبار عن الحدث هو صياغة له على صورة من الصور، وهو إظهار له بشكل من الأشكال، أي هو وصف لما حدث وتكييف له.

61 عامًا عاشها هيكل بجانب "صاحبة الجلالة" إذ بدأ العمل بها في 1942 وعمله بجريدة الأهرام وترأس تحريرها عام 1957 وظل بها لمدة 17 عاما، ووصلت فيها الأهرام إلى أن أصبحت واحدة من الصحف العشرة الأولى في العالم، وحتى اعتزاله للكتابة والعمل الصحفي في 23 سبتمبر 2003، بعدما أتم عامه الثمانين، وكان حينها يشرف على تحرير مجلة "وجهات نظر" ويكتب بها بشكل منتظم.

أول تحقيق صحفي كلف به هيكل كان في سن التاسعة عشر من عمره، وكان عن بيوت الدعارة، ورغم كونه من بيئة محافظة إذ نشأ في قرية باسوس التابعة لمحافظة القليوبية، إلا أنه استطاع أن ينجز هذا التحقيق بالذهاب إلى مكان بيوت الدعارة وتحديدا المتواجدة بحي كلوت بك الموازي لشارع "وش البركة"، وتحدث عن هذه المهمة في حوار له مع الكاتب الصحفي عادل حمودة أجراه معه عام 1999، قائلًا إنه لم يقدر على التغلب على خجله عندما وصل إلى هناك، ولم يستطع مفاتحة عاهرة في مهمته، وعاد خاوي اليدين دون تحقيق أية نتائج.

في مقال له بمجلة آخر ساعة، قال: "ذهبت إلى الحي الذي تستطيع أن تشتري فيه كل شيء، ودخلت أول بيت وأنا أفكر في الصيغة التي ألقي بها السؤال، لكن يبدو أنني لم أوفق في اختيار الصيغة لأنني خرجت من البيت الأول مشيعا بسباب وصل إلى أجدادي حتى عهد الملك مينا، وحاولت، وحاولت، لكن على غير فائدة، وأخيرًا أدركت عقم المحاولة، وبدأت أفكر بهدوء وأحسست أن ثقتي في نفسي بدأت تفارقني، والتفت فإذا مقهى قريب مني فذهبت إليه لأستريح وأفكر".

وتابع "في أثناء جلوسي لاحظت وجود سيدة متقدمة في السن كان جميع من في المقهى ينادونها بـ"المعلمة"، باحترام قل أن يكون له مثيل، ووثبت في ذهني فكرة، فتقدمت من السيدة وشرحت لها كل مهمتي، وأثبت لها أن مستقبلي كله يتوقف على معاونتها لي، وفكرت السيدة قليلا ثم قالت لي: اجلس فجلست"، وبالفعل ساعدته هذه السيدة، ورحل بعد أن استكمل مهمته على أكمل وجه والحصول على الاستمارات التي ملأها الفتيات، فضلا عن صور فوتوغرافية لهن.

كثيرة هى التحقيقات التي أنجزها هيكل واستطاع أن يترك بصمة لا تنسى خلال تاريخه الصحفي، ومنها تحقيق "خط الصعيد" 1944 أي بعد سنتين فقط من عمله بالصحافة، وصعد جبال أسيوط، إذ كان يعمل حينها بقسم التحقيقات في مجلة "آخر ساعة"، وقبلها كان يعمل بين السياسة وأخبار البرلمان والأأحزاب والقصر الملكي.

في 1947 وتحديدًا بعد دخول وباء الكوليرا إلى قرية القرين التابعة لمحافظة الشرقية، كان هيكل حينها قد انتقل للعمل بمؤسسة "أخبار اليوم"، خاض رحلة شاقة بتغطية الوباء، وهذا ما حكى عنه في كتابه "بين الصحافة والسياسة" قائلًا: "كان وباء الكوليرا قد تفشى في مصر، وغادرت القاهرة مع محمد يوسف كبير مصوري أخبار اليوم، وذهبنا لنقيم في منطقة ظهور الوباء بمحافظة الشرقية، وتقرر عزل المحافظة عن بقية مصر ونحن فيها، وكانت رسائلنا تصل كل أسبوع إلى أخبار اليوم تنقل إلى قرائها صورة شاملة إنسانية للحياة في ظلال الموت.. عدت مرة أخرى إلى الحياة مع الخطر، كما كنت أفعل في (الجازيت)، كان الخطر هناك هو الحرب والخطر الآن هو الوباء".

أضاف: "أظن أن مجموعة التحقيقات التي كتبتها عن الكوليرا لفتت أنظار كثيرين في مصر، فقد وجدت نفسي بعدها أفوز بجائزة فاروق الأول للصحافة العربية، وكان جائزة لها شأنها في ذلك الوقت خصوصًا بين الصحفيين الشبان".

لم تقتصر تحقيقات هيكل الصحفية داخل حدود مصر، بل خاض عدة مغامرات بالخارج، وحقق فيها إنجازا صحفيا عالميا، وكانت تغطية حرب فلسطين وانقلابات سوريا، وثورة محمد مصدق في إيران واغتيال الملك عبدالله في القدس، واغتيال رياض الصلح في عمان، واغتيال حسني الزعيم في دمشق، كلها انفرادات استطاع أن يحققها هيكل خلال 5 سنوات متتالية.