رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل تدخل «تيسلا» بقدميها ساحة غسل الأموال؟




وفق القواعد الدولية المتعارف عليها تتخذ الشركات الاستثمارية الكبرى قراراتها الاستراتيجية بعد دراسات معمقة لجميع المتغيرات التى تطرأ عادة من حين لآخر، على البيئة الكلية لساحة العمل والأنشطة والمدخلات المرتبطة بها، وهى دراسات تشمل جميع الاعتبارات الأمنية والسياسية ثم الاقتصادية وفق هذا الترتيب، من أجل الوصول إلى الهدف الرئيسى لهذه الشركات وهو تحقيق الربح من خلال استثمار آمن، ومتوازن، بما يضمن لها التطور والنمو بأفضل صورة ممكنة تحقق مصالح تلك الشركات الكبرى.
الإثنين الماضى، وفى أول يوم عمل بالأسواق العالمية، خرجت شركة «تيسلا» للسيارات بإعلان مثير للغاية، حول قرارها باستثمار «١.٥ مليار دولار» فى عملة «بتكوين» الرقمية، فضلًا عن قبولها هذه العملة الافتراضية فى عمليات السداد مقابل منتجاتها، أعقب هذا الإعلان المفاجئ ارتفاع سعر عملة «بتكوين» بشكل كبير ليبلغ مستوى قياسيًا جديدًا فاق حاجز الـ«٤٣ ألف دولار»، خلال يومين عمل فقط، خاصة بعد أن قامت الشركة بإصدار وثيقة رسمية تخص هذا القرار، وجهت فى الساعات الأولى، الإثنين لهيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية. وفى تعليقها على هذا الزلزال الحقيقى، ذكرت أنها غيّرت مؤخرًا سياستها الاستثمارية بهدف تنويع مصادر سيولتها، وكسب مزيد من المرونة لتكون أكثر قدرة على الدفع لمساهميها، باعتبارها شركة عامة يتم تداول أسهمها فى بورصة «ناسداك» بشعار «TESLA»، حيث وصلت الشركة التى تأسست فى يوليو ٢٠٠٣ برأس مال لم يتجاوز «١٠ ملايين دولار» إلى قيمة سوقية، قدرت فى يوليو ٢٠٢٠ بـ«٢٠٦.٥ بليون دولار» متجاوزة للمرة الأولى شركة «تويوتا»، ولتتربع على عرش شركة السيارات الأعلى قيمة بالعالم.
الزلزال لم يقف عند حد شركة «تيسلا» فحسب، فقطاع كبير من المستثمرين حول العالم اتخذ خطوة تيسلا، كإشارة إلى أن «بتكوين» ستصبح أصلًا ماليًا رئيسيًا خلال أعوام قليلة مقبلة. هذا فى الوقت الذى لم تهدأ فيه الانتقادات الموجهة لهذه العملة الافتراضية منذ ظهورها، فقد أنشأها مجهولون وتديرها شبكة لا مركزية تجعلها متقلبة بشكل كبير ويصعب التنبؤ بسعرها، وباعتبار أنها من أشكال النقود الرقمية فهى ليس لها شكل مادى، لذلك يظل التداول على وحداتها الرقمية عبر شبكة الكمبيوتر. ويبدو الإطار الوحيد الذى يمكن الحديث بشأنه، أنه تعمل عبر شبكة عالمية تضم مئات الآلاف من العقد، فى أجهزة داخل شبكة مثل الكمبيوتر أو بعض الأجهزة الأخرى المماثلة، التى تقوم معًا بمعالجة المعاملات وتخزينها. وهى صيغة ضبابية وزئبقية إلى حد كبير، ومع ذلك ارتفعت أسهم الشركات التى توفر منصات تداول الـ«بتكوين»، والتكنولوجيا المسئولة عن تعدين العملة المشفرة فى كل من الصين وكوريا الجنوبية وأستراليا، كما ارتفعت أيضًا أسهم شركات تصنيع رقائق الكمبيوتر الكبيرة وأشهرها شركة «إس كاى هينيكس». كما شهدت العملة ذاتها ارتفاعًا فى قيمتها بنسبة تجاوزت ٦٠٪ فيما مضى من أسابيع معدودة من هذا العام، علاوة على ما شهدته من ارتفاع بنسبة وصلت ٣٠٠٪ فى عام ٢٠٢٠. فيما كان يبحث المستثمرون خلال عام «جائحة كورونا» عن أصول بديلة، فى الوقت الذى كانت أسعار الفائدة فى العديد من البلدان تقبع عند مستويات منخفضة قياسية.
الصين خلال سباقها المحموم لضمان حجز مقعد الصدارة فى هذا التداول والاستثمار المستقبلى من وجهة نظرها، بدأت فى تبنى إصدار عملاتهم الرقمية الخاصة للاستخدام اليومى، رغم أن البنوك المركزية الكبرى لا تزال متشككة بشأن العملة الجديدة. ولعل تحذير «أندرو بيلى» محافظ بنك إنجلترا من استخدام البيتكوين كوسيلة للدفع، يعد أشهر تلك التحذيرات الصادرة من قبل المتخصصين، وقد أطلقه فى أكتوبر الماضى وتسبب حينها فى تكبد العملة خسائر ليست بالقليلة، وهنا كان المحافظ يشير إلى افتقارها لـ«القيمة الجوهرية» على عكس النقد أو الذهب. الكثيرون بالطبع يقفون فى صف تلك التحذيرات، معتبرينها فى إطار الحفاظ على قيمة الأموال التى يمتلكها كل من الأشخاص والشركات، من أن تتعرض لهزة ضخمة أو انكشاف غير محدد معالمه فتتسبب بخسائر واسعة المدى. اليوم ينظر لقرار شركة «تيسلا» باعتباره يمنح هؤلاء المتخوفين طبقة أخرى، من «دعم الثقة» بأن العملة المشفرة هى المستقبل القادم لا محالة، خاصة أنها تخضع الآن للتداول بالطريقة نفسها التى تتداول بها عملات حقيقية كالدولار الأمريكى والجنيه الإسترلينى. ومع مضى الوقت تحظى «بتكوين» بدعم متزايد كوسيلة للدفع عبر الإنترنت، حيث يعد موقع «PayPal» أحد أهم المواقع التجارية الشهيرة عبر الإنترنت التى تعتمد استخدام العملات الرقمية كوسيلة للدفع، ومع الإشارة إلى التنامى الهائل فى قيمة الشراء عبر الإنترنت حول العالم، تصبح المعادلة مرشحة للتوسع وللاستقرار بالنسبة للعملة الجديدة بشكل أوسع مما هى الآن.
لكن الصورة ليست وردية بالكامل، فهناك مساحات القلق التى لم تنقشع بعد فيما يخص هذا الشكل من التطور النقدى، فتاريخ «بتكوين» ذاتها يحمل العديد من التذبذبات الخطيرة والمرشحة للتكرار، فالعملة الرقمية سجلت عام ٢٠١٧ ارتفاعًا مشهودًا شارفت به على قيمة الـ«٢٠ ألف دولار»، لكنها ما لبثت أن تردت إلى أدنى مستوياتها فى العام الذى يليه إلى ما دون «٣٣٠٠ دولار». وتبقى المساحة الأخطر من مجرد تذبذب القيمة على أهميتها بالطبع، لكن حتى الآن ظلت الهواجس الأمنية حول استخدام «بتكوين» فى الأعمال والنشاطات غير المشروعة، هى الأبرز فى تخوفات هذا التحول غير المحسوب. مؤخرًا جاء فى خطاب «جانيت يلين» وزيرة الخزانة الأمريكية الجديدة الموجه إلى مجلس الشيوخ لتأكيد تعيينها، أن العملات الافتراضية تستخدم بشكل رئيسى لتمويل أنشطة غير مشروعة وتمثل مصدر «قلق خاص»، للنظام المصرفى العالمى، حيث انحازت إلى أن الحكومة الأمريكية عليها أن تدرس وسائل للحد من استخدامها، وضمان ألا تصبح العملة الجديدة وسيلة سهلة لعمليات تبييض الأموال.
وعلى هذا المفترق تقف اليوم أكبر شركات الولايات المتحدة، بين خطوتها المزلزلة التى وصفت بأنها قدمت أقوى دعم فى تاريخ العملة المشفرة، وبين مساحات الخطر من القفز على هذه العملة الزئبقية- حتى الآن- ليجرى استخدامها فى جميع ما هو غير قانونى، الذى يبدأ بغسل الأموال وقد لا ينتهى عند التنظيمات الإرهابية التى اخترقت مبكرًا هذه التقنية، ولها فيها استثمارات بالملايين لم يتمكن أحد حتى الآن من كشف أغوارها.